2- دليل دراسة الكتاب المُقدَّس - الربع الثالث 2017 - بشارة الإنجيل في سِفر غلاطية


٢٢-٢٨ تموز (يوليو)


إيمان العهد القديم






السبت بعد الظهر


المراجع الأسبوعية: غلاطية ٣: ١-١٤؛ رومية ١: ٢؛ ٤: ٣؛ تكوين ١٥: ٦؛ ١٢: ١-٣؛ لاويين ١٧: ١١؛ ٢كورنثوس ٥: ٢١.


آية الحفظ: «اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: ‹مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ› » (غلاطية ٣: ١٣).


«قام صبي صغير بصنع قارب صغير. وكان القارب ملوناً ومثبتاً بشكل جميل. وفي يوم من الأيام سرق أحد الأشخاص قارب الصبي، الأمر الذي أحزنه كثيراً. وفي أحد الأيام، وأثناء مروره بجوار دكان للودائع، رأى قاربه معروضاً هناك. وبسعادة فائقة ركض نحو صاحب الدكان وقال: «هذا قاربي الصغير». فقال التاجر، «لا، إنه قاربي، لأنني اشتريته.» فقال الصبي، «نعم، ولكنه ملكي أنا، فأنا مَن صنعه.» فقال التاجر، «حسناً، إذا أعطيتني دولارين يمكنك الحصول عليه.» لقد كان ذلك مبلغاً كبيراً بالنسبة لصبي صغير ليس لديه سنتاً واحداً. على أي حال، قرر الصبي الحصول على القارب؛ لذا قام بالعمل في قص الحشائش، وبكافة أنواع الأعمال المتاحة، وسرعان ما تمكن من توفير المبلغ المطلوب.


وركض إلى الدكان وقال، «أريد قاربي.» ودفع النقود واستلم القارب. وأمسك بالقارب واحتضنه وقبَّله، وقال: «أيها القارب العزيز، أنا أحبك. أنت لي. أنت مِلْكي مرتين. فلقد صنعتك، وها أنا الآن قد اشتريتك.»


«وهكذا هو الحال معنا. فنحن، إلى حد ما، مِلك لله مرتين. فهو قد خلقنا، ثم حدث أن دخلنا إلى محل الشيطان للمرهونات، فجاء المسيح واشترانا بثمن باهظ الكلفة، ليس بفضة أو بذهب، ولكن بدمه الثمين» [ويليام موسى تيدويل، إيضاحات جليَّة (كنساس، مطبعة بيكون هيل، ١٩٥١)، صفحة ٩٧].


*نرجو التعمق في موضوع هذا الدرس استعداداً لمناقشته يوم السبت القادم ٢٩ تموز (يوليو).




الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ


اقرأ غلاطية ٣: ١-٥. لخص أدناه ما يقوله بولس للغلاطيين. بأي معنى يمكن أن نكون نحن في خطر السقوط في نفس الشَّرك الروحي، بحيث نبدأ بداية جيدة ثم ننتهي بالسقوط في التزمُّت والتقيُّد الحرفي بالناموس؟


لقد حاولت عدة ترجمات حديثة فهم ما تعنيه كلمات بولس في عد ١ حول «غباء» أهل غلاطية. والكلمة الفعلية التي يستخدمها بولس في اللغة اليونانية هي أكثر قوة حتى من هذه الكلمة. والكلمة هي «anoetoi»، وهي تأتي من الكلمة التي تشتق منها كلمة عقل «nous». وحرفياً، تعني الكلمة التي استخدمها بولس «بلا عقل أو طائش». فأهل غلاطية لم يفكروا. لكن بولس لا يتوقف عند هذا الحد؛ فيقول إن تصرُّفهم بحماقة جعله يتساءل ما إذا كان ساحر ما قد رماهم بلعنة. «مَنْ رَقَاكُمْ؟» وقد يوحي اختياره للكلمات هنا إلى أن مصدر الحالة التي هم عليها هو الشيطان (٢كورنثوس ٤: ٤).


إن ما حيَّر بولس كثيراً حول ارتداد أهل غلاطية عن الإنجيل هو معرفتهم بأن الخلاص متجذّر في صليب المسيح. وهذا أمر ما كان ينبغي أن يغيب عن أذهانهم. والكلمة المترجمة «صُوِّرَ» أو «رُسِمَ» كما في غلاطية ٣: ١ تعني حرفياً أن صليب المسيح قد «عُلِقَ في مكان عام» أو «وُصِف وصفاً نابضاً بالحياة». ومثل هذه الكلمات كانت تُستخدم لوصف كل التراخيص والإعلانات العامة. ويقول بولس أن الصليب كان جزءاً أساسياً من وعظه وتبشيره لأهل غلاطية لدرجة أنهم بالفعل قد رأوا بعين أذهانهم المسيح مصلوباً (١كورنثوس ١: ٢٣؛ ٢: ٢). وبمعنى ما، يقول بولس أنهم، من خلال أعمالهم وتصرفاتهم، يحيدون بعيداً عن الصليب.


ثم يقارن بولس بين اختبار أهل غلاطية الحالي وبين الطريقة التي جاءوا بها إلى الإيمان في المسيح في بادئ الأمر. وهو يفعل ذلك عن طريق طرح بعض الأسئلة التهكمية عليهم. كيف تسلموا الروح القدس، ويقصد كيف أصبحوا مسيحيين في بداية الأمر؟ ومن منظور مختلف بعض الشيء، لماذا أعطى ﷲ الروح القدس؟ هل لأنهم فعلوا شيئاً ليستحقوه؟ بالتأكيد لا! وبدلاً من ذلك، كان سبب حصولهم على الروح القدس هو تصديقهم للأخبار السارة بشأن ما قد فعله المسيح من أجلهم. وإذا كانوا قد بدأوا بشكل جيد، فما الذي جعلهم يعتقدون أن عليهم الآن أن يعتمدوا على أعمالهم ومجهوداتهم الخاصة؟






راسخ في الكتاب المقدس


إلى هذا الحدّ دافع بولس عن إنجيله ورسالة «التبرير بالإيمان» للغلاطييّن بالإشارة إلى الوفاق الذي وصل إليه مع الرسل في أورشليم (غلاطية ٢: ١-١٠) وبالإشارة كذلك إلى الاختبار الخاص بأهل غلاطية أنفسهم (غلاطية ٣: ١-٥). وبداية بغلاطية ٣: ٦، يتوجه بولس إلى شهادة الكتاب المقدس لتأكيد وتعضيد رسالته الإنجيليّة. وإننا في الحقيقة نجد أن غلاطية ٣: ٦-٤: ٣١ تتكون من مجادلات متدرجة مؤسسة في كلمة ﷲ.


ما الذي يعنيه بولس عندما يكتب حول «الْكِتَاب» في غلاطية ٣: ٦-٨؟ انظر رومية ١: ٢؛ ٤: ٣؛ ٩: ١٧.


من المهم أن نتذكر أنه في الوقت الذي كتب فيه بولس رسالته إلى أهل غلاطية لم تكن هناك كتابات «العهد الجديد» في الكتاب المقدس. لذا فإنّه عندما يقتبس من الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ، فإنما هو يقتبس من أسفار العهد القديم.


إن أسفار العهد القديم تلعب دوراً مميّزاً في تعاليم بولس. وهو لا ينظر إليها كنصوص جامِدة لا حياة فيها ولكن بوصفها كلمة ﷲ الموثوقة والحيَّة. ويكتب بولس في ٢تيموثاوس ٣: ١٦ قائلاً: «كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ». والكلمة المترجمة «مُوحى» هي «theopneustos». والجزء الأول من هذه الكلمة هو «theo» ويعني «ﷲ»، بينما الجزء الثاني من الكلمة الذي هو «pneustos» فيعني «تنفس أو نفخ نسمة» أو «breathed». فاْلكُتُب المقدسة إذن هي «نسمة ﷲ». ويستخدم بولس الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ ليبرهن أن المسيح هو المسيا الموعود (رومية ١: ٢)، وليبرهن شرعية وصحة تعاليمه هو (غلاطية ٣: ٨و ٩).


ويصعب تحديد كم هي مئات المرات التي يقتبس فيها بولس العهد القديم، لكننا نجد أن هذه الاقتباسات منتشرة في رسائله، باستثناء الرسالتين القصيرتين منها، وهما تيطس وفيلمون.


اقرأ غلاطية ٣: ٦-١٤ بعناية وتمعن. حدد الفقرات المقتبسة من العهد القديم في هذه الآيات. ماذا يخبرنا ذلك حول ما كان عليه العهد القديم من موثوقية وسلطة وشرعية؟






المحسوب باراً «حُسِبَ لَهُ بِرًّاً»


لماذا في اعتقادك يحتكم بولس إلى إبراهيم حين يلجأ إلى الكتب المقدسة لتأييد رسالة إنجيله؟ (غلاطية ٣: ٦).


لقد كان إبراهيم شخصية محورية في الديانة اليهودية. فهو لم يقتصر على كونه أباً للجنس اليهودي، لكن اليهود في زمن بولس كانوا ينظرون إليه باعتباره نموذجاً لما ينبغي لليهودي الحقيقي أن يكون عليه. والعديد لا يعتقدون بأن سمته المميزة كانت الطاعة فحسب ولكنهم كانوا يعتقدون كذلك أن ﷲ قد أعلن أن إبراهيم بارٌ بسبب تلك الطاعة. فإبراهيم، على كل حال، قد تخلى عن وطنه وعائلته وقَبِل الخضوع لعملية الختان، ولقد كان على استعداد للتضحية حتى بابنه امتثالاً لأمر الرب. هذه هي الطاعة! وبالتأكيد كان هذا هو الأساس الذي بنى عليه معارضو بولس حجتهم عند إصرارهم على ضرورة الختان.


إلا أن بولس، مع ذلك، قد استطاع إثبات نقطته ودعم حجته وذلك من خلال الإشارة والاحتكام إلى إبراهيم — تسع مرات في غلاطية — كنموذج للإيمان بدلاً من حفظ الناموس.


تمعن في اقتباس بولس من تكوين ١٥: ٦. ما الذي تعنيه الآية بقول أن الرب قد «حَسِبَهُ لَهُ بِرًّا»، وذلك إشارة إلى إيمان إبراهيم؟ (انظر أيضاً رومية ٤: ٣-٦و ٨-١١و ٢٢-٢٤).


في حين كان التبرير استعارة مأخوذة من عالم القوانين والأحكام، إلا أنّ كلمة «حُسِّب من (حساب)»أو عُدَّ (من عدد)» هي استعارة مأخوذة من مجال إدارة الأعمال. وهي تعني أن «تضع في حساب» أو أن تضع شيئاً ما في حساب شخص ما». وهذه الكلمة لم تستخدم فقط للإشارة إلى إبراهيم في غلاطية ٣: ٦، لكنها تُذكر ١١ مرة مرتبطة بإبراهيم. وتستخدم بعض ترجمات الكتاب المقدس كلمات مثل «حُسِبَ، عُدَّ أو نُسِبَ» كمرادفات لهذه الكلمة.


ووفقاً لاستعارة بولس فإن ما يوضع في حسابنا هو البِرّ. والسؤال مع ذلك هو، على أي أساس يحسبنا ﷲ أبراراً؟ بالتأكيد أن ذلك لن يكون على أساس الطاعة — بغض النظر عما زعمه معارضو بولس. وبغض النظر عما قالوه عن طاعة إبراهيم، فإن الكتاب المقدس يقول بأن إيمان إبراهيم حُسِبَ له برّاً.


الكتاب المقدس واضح: إن طاعة إبراهيم لم تكن هي سبب تبريره؛ لكنها بدلاً من ذلك كانت نتيجة هذا التبرير. فهو لم يقم بالأمور التي قام بها من أجل أن يكون باراً؛ لكنه قام بها لأنه كان، بالفعل، مبرراً. إن التبرير يؤدي إلى الطاعة، وليس العكس.






البشارة في العهد القديم


«وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ اللهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ، سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ ‹فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ› » (غلاطية ٣: ٨). ويقول بولس في رسالته أن البشارة لم تُبَشَّر إلى إبراهيم فحسب، بل إن ﷲ هو مَن بَشَّره بها؛ لذا فيجب أن تكون هذه البشارة بشارة حقيقية. لكن متى بشَّر ﷲ إبراهيم بهذه البشارة؟ يشير اقتباس بولس للآية في تكوين ١٢: ٣ إلى أن ما كان يدور بذهن بولس حين قال ذلك هو العهد الذي قطعه ﷲ مع إبراهيم عندما قدم له الدعوة لإتباعه في تكوين ١٢: ١-٣.


اقرأ تكوين ١٢: ١-٣. ماذا يخبرنا هذا حول طبيعة العهد الذي قطعه ﷲ مع إبراهيم؟


لقد ارتكز عهد ﷲ مع إبراهيم على وعود ﷲ له. لقد قال ﷲ لإبراهيم أربع مرات: «فَـ [أي سَوُفَ]». ووعود ﷲ لإبراهيم مدهشة لأنها وعود أحادية الجانب تماماً. فالله هو مَن يُقدّم كل الوعود؛ في حين لا يَعِد إبراهيم بشيء. وهذا هو عكس ما يحاول معظم الناس عمله عند تعاملهم مع ﷲ. فنحن عادة مَنْ نَعِد ﷲ بأننا سنخدمه فقط إذا كان سيقوم بعمل شيء ما من أجلنا في المقابل. لكن هذا تزمت [تقيد حرفي بالناموس]. ولم يطلب ﷲ من إبراهيم أن يَعِد بأي شيء سوى أن يقبل وعود ﷲ بالإيمان. وبطبيعة الحال، لم تكن هذه مهمة سهلة لأنه كان على إبراهيم أن يتعلم الثقة التامة بالله وليس في نفسه (انظر تكوين ٢٢). وبالتالي فإن دعوة إبراهيم توضح جوهر البشارة، الذي هو الخلاص بالإيمان.


ولقد أخطأ البعض في استنتاج أن الكتاب المقدس يقدم طريقتين للخلاص. فإنهم يزعمون أن الخلاص في زمن العهد القديم كان مؤسساً على حفظ الوصايا؛ ثم، ولأن هذا الأمر لم يعمل بشكل جيد، قام ﷲ بإلغاء الشريعة وجعل الخلاص ممكناً من خلال الإيمان. لكن هذا الزعم هو أبعد ما يكون عن الحقيقة. فكما يكتب بولس في غلاطية ١: ٧، يوجد إنجيل واحد فقط.


ما هي بعض الأمثلة الأخرى التي يمكنك إيجادها في العهد القديم حول الخلاص بالإيمان وحده؟ انظر، على سبيل المثال، لاويين ١٧: ١١و مزمور ٣٢: ١-٥؛ ٢صموئيل١٢: ١-١٣؛ زكريا ٣: ١-٤.






مُفْتَدُوُّنَ مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ (غلاطية ٣: ٩-١٤)


لا شك في أن معارضي بولس كانوا مذهولين حيال كلماته الجريئة في غلاطية ٣: ١٠. فمن المؤكد أنهم لم يفكروا في أنهم أنفسهم كانوا تحت لعنة؛ وإذا كان هنالك من شيء يفكرون فيه، فهو توقعهم أن ينالوا البركة من أجل طاعتهم. مع ذلك، فما قاله بولس لا لبس فيه: «لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: ’مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ‘«.


ويقارن بولس بين بديلين متباينين تماماً: الخلاص بالإيمان والخلاص بالأعمال. ولقد كانت بركات العهد واللعنات مدوّنة باختصار في تثنية ٢٧ و٢٨، وكانت صريحة ومباشرة. فإن أولئك الذين أطاعوا نالوا البركة، ومَن عصوا لُعِنوا. ويعني هذا أنه إذا أراد الإنسان الاعتماد على طاعة الناموس لنيل قبول ﷲ إذاً فلا بد لهذا الإنسان من أن يحفظ الناموس بأكمله. ونحن ليس لدينا الحرية في انتقاء ما نريد إتباعه من الناموس؛ كما لا ينبغي أن نفترض أيضاً أن ﷲ على استعداد للتغاضي عن قليل من الأخطاء التي نرتكبها هنا وهناك. إن المطلوب هو ليس أقل من حفظ الناموس بأكمله.


هذه بالطبع هي أخبار سيئة ليس فقط بالنسبة للأمم ولكن بالنسبة لمعارضي بولس المتزمتين من حفظة الشريعة، أيضاً، «إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (رومية ٣: ٢٣). فمهما كانت جدية محاولتنا في أن نكون صالحين، فإن الناموس لا يمكنه سوى أن يديننا كمنتهكين للشريعة.


كيف خلصنا المسيح من لعنة الناموس؟ انظر غلاطية ٣: ١٣؛ ٢كورنثوس ٥: ٢١.


ويقدم لنا بولس استعارة أخرى لتوضيح ما فعله ﷲ من أجلنا في المسيح. فكلمة فداء تعني «أن تشتري [الشيء] مرة أخرى». ولقد كانت تستخدم هذه الكلمة للإشارة إلى الثمن الذي يُدفع لإطلاق سراح رهينة أو الثمن الذي يدفع لتحرير عبد. ولأن أجرة الخطيئة هي موت، فإن لعنة الفشل في حفظ الناموس كانت في أغلب الأحيان هي الحكم بالموت. ولم تكن الفدية المدفوعة لخلاصنا تافهة أو يُستهان بها؛ إن ذلك قد كلّف ﷲ حياة ابنه (يوحنا ٣: ١٦). لقد افتدانا المسيح من اللعنة بأن أصبح هو حامل خطايانا (١كورنثوس ٦: ٢٠؛ ٧: ٢٣). فإنه قد أخذ طوعاً لعنتنا على نفسه وعانى بحمل عقاب الخطية بالكامل نيابة عنا (٢كورنثوس ٥: ٢١).


ويستشهد بولس بتثنية ٢١: ٢٣ كبرهان كتابي. فوفقاً للتقاليد اليهودية، فإن الشخص كان ملعوناً من ﷲ إذا ظلت جثته، بعد تنفيذ عقوبة الموت، معلقة على شجرة. ولقد اعتبر موت المسيح على الصليب مثالاً على هذه اللعنة (أعمال ٥: ٣٠؛ ١بطرس ٢: ٢٤).


ولا عجب، إذن، في أن الصليب كان حجر عثرة بالنسبة لبعض اليهود الذين لم يتمكنوا من فهم فكرة أن المسيا قد لُعن من قِبل ﷲ. لكن هذه بالضبط كانت خطة ﷲ. نعم، لقد حمل المسيح لعنة، لكنها لم تكن لعنته هو، إنما كانت لعنتنا نحن!




لمزيد من الدرس: «لقد وضع على المسيح نائبنا وضامننا إثم جميعنا. حُسب مذنباً ليفتدينا من دينونة الناموس ولعنته، فلقد كان إثم كل واحد من نسل آدم يضغط على قلب الفادي. إن غضب ﷲ على الخطية وإعلانه لسخطه العظيم على الإثم ملأ نفس ابنه حزناً ورعباً. والمسيح مدى سني حياته كلها ظل يعلن للعالم الساقط الأخبار السارة عن رحمة الآب ومحبته الغافرة. وكان موضوع حديثه هو الخلاص لأشر الخطاة. أما الآن وهو يحمل أثقال خطايا البشرية الهائلة فلا يمكنه أن يرى وجه الآب المصالح. إن احتجاب وجه ﷲ عن المخلص في هذه الساعة، ساعة العذاب الذي لا يطاق جعل سهام الحزن العميق تخترق قلبه، ذلك الحزن الذي لا يمكن لإنسان أن يدركه إدراكاً كاملاً. وقد كان هذا العذاب النفسي عظيماً جداً بحيث لم يكد يحس بآلامه البشرية» (روح النبوة، مشتهى الأجيال، صفحة ٧١٤).


«باشر لوثر عمله بشجاعة كمدافع عن الحق. وسمُع صوته من المنبر وهو يوجه إلى سامعيه إنذاراً حاراً مقدساً. وقد شرح للشعب أن الخطيئة كريهة جدا، وعلمهم أنه يستحيل على الإنسان بأعماله أن يقلل من جرمها أو يفلت من قصاصها. ولا شيء يخلص الخاطئ غير التوبة إلى ﷲ والإيمان بالمسيح. ونعمة المسيح لا يمكن شراؤها، فهي هبة مجانية. ثم نصح الشعب بألا يشتروا صكوك الغفران بل أن ينظروا بالإيمان إلى الفادي المصلوب» (روح النبوة، الصراع العظيم، صفحة ١٤٣).




ملخص الدرس: في مسيرتنا المسيحيّة، من البداية للنهاية، أساس خلاصنا هو الإيمان بالمسيح وحده. ولقد حُسب إبراهيم باراً بسبب إيمانه في وعود ﷲ، ونفس عطية البرّ هذه متاحة اليوم لكل مَن يشارك إيمان إبراهيم. والسبب الوحيد الذي من أجله نحن لا ندان بسبب أخطائنا هو أن المسيح قد دفع الثمن عن ذنوبنا بموته عوضاً عنا.


الدرس السادس


٢٩تموز (يوليو) - ٤ آب أغسطس


أفضليّة الوعد






السبت بعد الظهر


المراجع الأسبوعية: غلاطية ٣: ١٥-٢٠؛ تكوين ٩: ١١-١٧؛ متى ٥: ١٧-٢٠؛ خروج ١٦: ٢٢-٢٦؛ تكوين ١٥: ١-٦.


آية الحفظ: «لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوِرَاثَةُ مِنَ النَّامُوسِ، فَلَمْ تَكُنْ أَيْضًا مِنْ مَوْعِدٍ. وَلكِنَّ اللهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ» (غلاطية ٣: ١٨).


ذات مرة، سُئِلَ واحد من كبار مستشاري أحد الرؤساء: «هل أوفى الرئيس بكل الوعود التي تعهد بها خلال حملته الانتخابية؟» فأجاب المستشار قائلاً: «لقد أوفى الرئيسُ بكل الوعود التي كان عازماً على الوفاء بها».


مَن مِنَّا، في وقت أو في آخر، لم ينقض وعداً؟ ومَن مِنَّا لم يَخِلَّ بوعد كان قد قطعه لشخص آخر؟ ومن منا لم يُعاني مِنْ نَقْضِ شَخْصٍ آَخَر لِوَعْدٍ وَعَدَهُ إِيَّاه؟


في بعض الأحيان، يقطع الناس وعوداً ولديهم النية الخالصة في الوفاء بما وعدوا، لكنهم لا يتمكنون من الوفاء بالوعد لاحقاً؛ وهناك مَن يَعِدون بعمل شيء لكنهم يدركون أن وعدهم كاذب حتى وبينما لا تزال كلمات الوعد على ألسنتهم.


لكن ما يعزينا هو أن وعود ﷲ تختلف كلية عن وعودنا. فإن كلمة ﷲ أكيدة ولا تتغير. « ’قَدْ تَكَلَّمْتُ فَأُجْرِيهِ. قَضَيْتُ فَأَفْعَلُهُ‘ « (إشعياء: ٤٦: ١١).


وفي درس هذا الأسبوع، يوجِّه بولس انتباهنا إلى العلاقة بين وعد ﷲ لإبراهيم والشريعة المُعطاة إلى موسى بعد ٤٣٠ عام من ذلك الوعد. كيف ينبغي فهم العلاقة بين هذين الأمرين، وما هو تأثير ذلك على التبشير ببشارة الإنجيل؟


*نرجو التعمق في موضوع هذا الدرس استعداداً لمناقشته يوم السبت القادم الموافق ٤آب (أغسطس).




الناموس والإيمان (غلاطية ٣: ١٥-١٨)


بالرغم من تسليم معارضي بولس بأنّ حياة أبينا إبراهيم كانت تتسم بالإيمان في المقام الأول، إلا أن بولس كان يعرف أنه لا تزال لديهم أسئلة حول السبب الذي من أجله أعطى ﷲ الناموس لإسرائيل بعد حوالي أربعة قرون من زمن إبراهيم. أمَا يُبطل الناموس المُعطى لإسرائيل أي ترتيبٍ قديمِ آخر؟


ما هو قصد بولس من المشابهة بين وصية الإنسان الأخيرة المتعلقة بالميراث في أواخر أيامه وبين عهد ﷲ مع إبراهيم؟ غلاطية ٣ :١٥-١٨.


إن العهد والوصية مختلفان عموماً. فالعهد نموذجياً هو اتفاقية متبادلة بين شخصين أو أكثر، وهي تسمى في أغلب الأحيان «عقد» أو «معاهدة»؛ وعلى النقيض من ذلك، فالوصية هي إعلان مِن قِبل شخص واحد. والترجمة اليونانية للعهد القديم، [المعروفة بـ] السبعينية، لم تترجم الكلمة التي تشير إلى عهد ﷲ مع إبراهيم مستخدمة نفس الكلمة المستخدمة للإشارة إلى الاتفاقات المشتركة أو العقود بين الأشخاص (syntheke). بدلاً من ذلك، تستخدم الترجمة الكلمة (diatheke) التي تدل على الوصية. لماذا؟ ربما لأن المترجمين أدركوا أن عهد ﷲ مع إبراهيم لم يكن اتفاقية بين فردين، حيث يتم فيها الاتفاق على عهود متبادلة ملزِمة بين الطرفين. فإن عهد ﷲ، على النقيض من ذلك، لم يكن مؤسساً سوى على إرادته هو. ولا وجود في هذه الإرادة لكلمات مثل «إذا»، «و»، و «لكن» كملحقات لهذا العهد [تضمن التزام الطرفين به]. وكان على إبراهيم ببساطة أن يثق في كلمة ﷲ.


ويشدد بولس على هذا المعنى المزدوج لـ «الوصية» و «العهد» لكي يبرز السمات المميزة لعهد ﷲ مع إبراهيم. وكما هو الحال مع وصية البشر، فإن وعد ﷲ يَخُص منتفعاً معيناً، إبراهيم ونسله (تكوين ١٣: ١٥؛ ١٧: ٨؛ رومية ٤: ١٣؛ غلاطية ٣: ٢٩). والشيء الأكثر أهمية بالنسبة لبولس هو الطبيعة الثابتة لوعد ﷲ. وبنفس الكيفيّة لا يمكن تغيير وصيّة إنسان طالما كانت سارية المفعول، لذا فإعطاء الناموس لإسرائيل بواسطة موسى لا يقدر ببساطةٍ أن يبطل عهد ﷲ السابق مع إبراهيم. إنّ عهد ﷲ هو وعد (غلاطية ٣: ١٦)، وﷲ ما كان يوماً ناقضاً للعهد. وﷲ، بأي حال من الأحوال، لا يخلف وعده (إشعياء ٤٦: ١١؛ عبرانيين ٦: ١٨).






الإيمان والناموس (رومية ٣: ٣١)


لقد تجادل بولس وحاجج بشدة من أجل سيادة الإيمان في علاقة الشخص بالله. ولقد ذَكَرَ بولس مراراً وتكراراً أنه لا الختان ولا أي من «أَعْمَال النَّامُوسِ» الأخرى هي شرط للخلاص، «إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ» (غلاطية ٢: ١٦). علاوة على ذلك، فإن العلامة المميزة للمؤمن ليست هي أعمال الناموس وإنما الإيمان (غلاطية ٣: ٧). وهذا الرفض المتكرر لأعمال الناموس يثير السؤال، «إذن، هل يخلو الناموس من أية قيمة؟ هل أَبْطَل ﷲ الناموسَ؟»


ولأن الخلاص هو بالإيمان وليس بأعمال الناموس، فهل يقصد بولس القول بأن الإيمان يُبْطِل الناموس؟ ما الذي تخبرنا هذه الفقرات إياه؟ قارن رومية ٣: ٣١ برومية ٧: ٧و ١٢؛ ٨: ٣ ومتى ٥: ١٧-٢٠.


يتوازى تحاجج بولس في رومية ٣ مع نقاشه حول الإيمان في سفر غلاطية. فعندما أحس بأن تعليقاته قد تؤدي بالبعض إلى استنتاج أنه يرفع من شأن الإيمان على حساب الناموس، سأل بولس السؤال التهكمي التالي، «أَفَنُبْطِلُ النَّامُوسَ بِالإِيمَانِ؟» (رومية ٣: ٣١). والكلمة المترجمة «نبطل» هنا هي «katargeo». ويستخدم بولس هذه الكلمة كثيراً، ويمكن لها أن تترجم «أن تلغي» (رومية ٣: ٣). ويمكن كذلك للكلمة أن تُتَرجم «أن تمحو» (أفسس ٢: ١٥)، أو أن «تزيل الشيء عن آخره» (رومية ٦: ٦)، أو حتى أن «تبِيد» (١كورنثوس ٦: ١٣). والواضح هو أنه لو كان بولس يدعم فكرة أن الناموس، بطريقة ما، قد أُبطل على الصليب، مثلما يزعم البعض اليوم أنَّ بولس قد عَلّمَ بذلك، لكانت هذه مناسبة مواتية لأن يعلن بولس ذلك صراحة. لكنه ينفي هذا الزَعم والادعاء نفياً تماماً، بل ويصرِّح بأن بشارته «تُثبِّت» الناموسَ!


«إنّ خطّة التبرير بالإيمان تعلن اهتمام ﷲ وتكريمه لناموسه بطلبه تقديم ذبيحة الكفّارة. فلو أنّ التبرير بالإيمان يلغي الناموس، فحينئذ لم تكن هناك حاجة لتقديم المسيح نفسه ذبيحة كفاريّة. لكي يحررّ الخاطئ من آثامه، ويضعه في سلام مع ﷲ.


«وعلاوة على ذلك، فإن الإيمان الحقيقي يعني، في حدّ ذاته، الرغبة القصوى في عمل مشيئة ﷲ في حياة طاعة لناموس ﷲ... الإيمان الحقيقي المبني على محبّة صادقة من كلّ القلب للمخلّص لا بدّ أن يقود إلى الطاعة» (موسوعة الأدفنتست التفسيرية، مجلد ٦، صفحة ٥١٠).






الغرض من الناموس


في غلاطية ٣: ١٩: ٢٩ يشير بولس مرات عدة إلى «الناموس». أي ناموس يشير إليه بولس في المقام الأول في هذا الجزء من سفر غلاطية؟


يعتقد البعض أن كلمتَي «إِلَى أَنْ» في عد ١٩ تشيران إلى أن هذا الناموس كان مؤقتاً، وقد اعتقدوا بأن هذه الفقرة لاَبُدَّ وأنها تشير إلى الناموس الطقسي، لأن الهدف من هذا الناموس (الطقسي) قد تمّ على الصليب، وبالتالي انتهى وأُبطِلْ. وعلى الرغم من أن هذا الأمر يبدو معقولاً في حد ذاته، إلا أنه لا يبدو أنّ هذا هو ما كان يرمي إليه بولس في غلاطية. ففي حين أن كلا الناموسين قد «زِيدَا» في سيناء بسبب التعدي، إلا أنه سوف يتضح لنا، من خلال النظر إلى السؤال التالي، أن بولس كان يقصد الناموس الأدبي في المقام الأول.


لماذا يقول بولس أن الناموس قد زِيدَ؟ وإلى أي شيء زِيدَ هذا الناموس؟ قارن غلاطية ٣: ١٩ ورومية ٥: ١٣و ٢٠.


لا يقول بولس أن الناموس قد زِيدَ على عهد ﷲ مع إبراهيم، كما لو كان نوعاً من الإضافة التي تغيِّر الأحكام الأصلية. إن الناموس كان حيز الوجود قبل سيناء بزمن بعيد (انظر درس الغد). إن ما يعنيه بولس، بدلاً من ذلك، هو أن الناموس قد أُعطي لإسرائيل من أجل غرض مختلف تماماً. لقد أُعطي من أجل توجيه الناس مرة أخرى إلى ﷲ، إلى النعمة التي يقدمها لكل مَن يأتون إليه بالإيمان. إن الناموس يعكس لنا حالتنا الآثمة وحاجتنا إلى نعمة ﷲ. ولم يُقصَد للناموس أن يكون نوعاً من أنواع المناهج لـ «كسب» الخلاص. على العكس من ذلك، يقول بولس أن الناموس قد أُعطي «لِكَيْ تَكْثُرَ الْخَطِيَّةُ» (رومية ٥: ٢٠)؛ بمعنى أن الناموس يُظهر لنا بوضوح أكثر الخطية الموجودة في حياتنا (رومية ٧: ١٣).


وبينما أشارت النواميس الطقسية إلى المسيا وأكدت على القداسة والحاجة إلى مخلّص، فإن الناموس الأدبي، بما فيه من عبارات «لا» الناهية، هو الذي يكشف الخطية، وهو الذي يُظهر لنا أن الخطية هي ليست مجرد جزء من حالتنا الطبيعية وإنما، في الحقيقة، هي انتهاك لناموس ﷲ (رومية ٣: ٢٠؛ ٥: ١٣و ٢٠؛ ٧: ٧و ٨و ١٣). ولهذا السبب يقول بولس، «إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضًا تَعَدٍّ» (رومية ٤: ١٥). «إن الناموس هو بمثابة عدسة مكبِّرة. وهذه الأداة لا تزيد في الواقع من عدد البقع القذرة التي تلوث الرداء، لكنها تجعل هذه البقع تبرز بوضوح أكثر وتكشف عن المزيد من البقع التي لم يكن الشخص قادراً على رؤيتها بعينه المجردة» [ويليام هندريكسن، تفسير العهد الجديد، شرح سفر غلاطية، (جراند رابيدز، مشيغان: دار بيكر للنشر، ١٩٦٨)، صفحة ١٤١].




دوام ناموس ﷲ


هل تعني عبارة بولس بأن الناموس قد زِيدَ على جبل سيناء أن الناموس لم يكن موجوداً من قبل؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما هو الفرق بين الناموس قبل وبعد أن أعُطي على جبل سيناء؟ اقرأ تكوين ٩: ٥و ٦؛ ١٨: ١٩؛ ٢٦: ٥؛ ٣٩: ٧-١٠؛ خروج ١٦: ٢٢-٢٦.


لم يكن ﷲ بحاجة إلى أن يعلن ناموسه لإبراهيم بالرعد والبرق وعقوبة الموت (خروج ١٩: ١٠-٢٣). فلماذا، إذن، أعطى ﷲ الناموس إلى الإسرائيليين بهذه الطريقة؟ كان ذلك لأنّ الإسرائيليين، أثناء العبودية في مصر، قد توارت عن أنظارهم عظمة ﷲ ومبادئه القويمة الرفيعة. وكنتيجة لذلك، وجب إيقافهم وتعرية حالتهم الخاطئة وتزكية ناموس ﷲ المقدّس، والإعلان المبهر على جبل سيناء قد أدّى ذلك الغرض بالفعل.


ما الذي يعنيه بولس عندما يقول أن الناموس قد زِيد «حَتَّى يُبَطِّلَ الْمَوْعِدَ» (غلاطية ٣: ١٦-١٩).


قد اعتقد الكثيرون أنّ هذه الآية تعني أنّ الناموس الذي نزل في سيناء كان مؤقتاً. فهذا الناموس [وفق مفهومهم] بدأ بعد زمن إبراهيم بـ ٤٣٠ سنة وانتهى بمجيء المسيح. إلا أن هذا التفسير، مع ذلك، يتعارض مع ما يقوله بولس عن الناموس في سفر رومية، وكذلك في مراجع أخرى من الكتاب المقدس مثل متى ٥: ١٧-١٩.


والخطأ الذي غالباً ما يقع فيه القرَّاء عند تعاملهم مع هذا المقطع هو افتراضهم بأن كلمتي «إِلَى أَنْ» تعنيان دائماً فترة محدودة من الوقت. لكن الأمر ليس هكذا. وفي وصفٍ للإنسان الذي يخاف ﷲ، نجد الآية في مزمور ١١٢: ٨ تقول، «قَلْبُهُ مُمَكَّنٌ فَلاَ يَخَافُ حَتَّى [إِلى أَنْ] يَرَى بِمُضَايِقِيهِ». فهل معنى هذا أن الشخص سيصبح خائفاً عندما ينتصر على مضايقيه؟ ويقول المسيح في رؤيا ٢: ٢٥، «الَّذِي عِنْدَكُمْ تَمَسَّكُوا بِهِ إِلَى أَنْ أَجِيءَ.» فهل قصد المسيح بذلك أننا لن نعود بحاجة إلى أن نكون أمناء ومخْلِصين عندما يأتي؟


إن دور الناموس لم ينته بمجيء المسيح. فالناموس سيواصل إظهار الخطية والإشارة إليها ما دام موجوداً [أي الناموس]. إن ما يقوله بولس هو أن مجيء المسيح يمثِّل نقطة حاسمة في تاريخ البشرية. فبإمكان المسيح عمل ما لا يمكن للناموس أبداً عمله، ألا وهو تقديم علاج حقيقي لمعضلة الخطية، أي أن يبرّر الخطاة وبواسطة روحه القدّوس يتمّم ناموسه في حياتهم (رومية ٨: ٣و ٤).






تميّز الوعد وجلاله


«هذَا هُوَ الَّذِي كَانَ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْبَرِّيَّةِ، مَعَ الْمَلاَكِ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُ فِي جَبَلِ سِينَاءَ، وَمَعَ آبَائِنَا. الَّذِي قَبِلَ أَقْوَالاً حَيَّةً لِيُعْطِيَنَا إِيَّاهَا» (أعمال ٧: ٣٨).


يواصل الرسول بولس في غلاطية ٣: ١٩و ٢٠ أفكاره المتسلسلة عن الناموس الذي لم يكن مُبطِلاً لعهد النعمة. وهذا أمر مهم لأنه، إذا كان الجدل اللاهوتي لمعارضيه صحيحاً لكان الناموس سيقوم بعمل ذلك عينه [أي إبطال عهد النعمة]. فكِّر فيما كان سيكون عليه موقفنا كخطاة عندها. فإذا كان علينا الاعتماد على حفظ الناموس، بدلاً من الاعتماد على نعمة ﷲ للخلاص، لَكُنّا في النهاية بلا رجاء.


وعلى الرغم من صعوبة التفاصيل التي أعطاها بولس في غلاطية ٣: ١٩و ٢٠، إلا أن وجهة نظره الأساسية واضحة: الناموس تابع للوعد، لأن الناموس قد أُعطي بوساطة [بِتَرْتِيبِ] من الملائكة وموسى. والصلة بين الملائكة وإعطاء الناموس غير مذكورة في سِفْر الخروج، لكنها موجودة في عدة أجزاء أخرى بالكتاب المقدس (تثنية ٣٣: ٢؛ أعمال ٧: ٥٣؛ عبرانيين ٢: ٢). ويستخدم بولس كلمة «وَسِيطٌ» في ١تيموثاوس ٢: ٥ للإشارة إلى المسيح، لكن تعليقات بولس هنا تشير بقوة إلى أنه كان يفكر في تثنية ٥: ٥ أثناء حديثه، حيث يقول موسى، «أَنَا كُنْتُ وَاقِفًا بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَكُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ لِكَيْ أُخْبِرَكُمْ بِكَلاَمِ الرَّبِّ».


ورغم أن حَدَثَ إعطاء الناموس في سيناء كان حدثاً مهيباً وجليلاً، ورغم حضور الملائكة التي لا تُعد ولا تحصى أثناء ذلك الحدث، ورغم أهمية وعلو شأن موسى عند إعطاء الناموس في ذلك الوقت، إلاَّ أن إعطاء الناموس كان حدثاً غير مباشر. وفي تناقض صارخ وشديد، نجد أن ﷲ قد قطع عهده مع إبراهيم بصورة مباشرة (وبالتالي، مع جميع المؤمنين)، لأنه لم تكن هناك حاجة إلى وسيط. ففي نهاية المطاف، وبغض النظر عما للناموس من أهمية، فهو لا يمكنه أن يكون بديلاً لوعد الخلاص بواسطة النعمة بالإيمان. وعلى العكس من ذلك، فإن الناموس يساعدنا على أن نفهم بشكل أفضل مدى روعة وعظمة ذلك الوعد حقاً.


قم بوصف طبيعة لقاءات إبراهيم المباشرة مع ﷲ. أية فوائد كانت هناك في مثل هذه اللقاءات المباشرة له مع ﷲ؟ انظر تكوين ١٥: ١-٦؛ ١٨: ١-٣٣؛ ٢٢: ١-١٨.






لمزيد من الدرس: «إن الشعب وهم في العبودية كانوا إلى حد كبير قد أضاعوا معرفة ﷲ ومبادئ العهد مع إبراهيم، ففي تحريرهم من مصر أراد ﷲ أن يعلن لهم قدرته ورحمته لكي يقودهم ذلك إلى إن يحبوه ويثقوا به، ولقد أنزلهم إلى بحر سوف (البحر الأحمر) حيث بدا أن النجاة مستحيلة — إذ كان المصريون يجدون في أثرهم — ليتحققوا من عجزهم التام وحاجتهم إلى معونة ﷲ، وحينئذ صنع لهم الخلاص. وهكذا امتلأت قلوبهم حباً وشكراً لله وثقة بقدرته على إعانتهم. لقد جعلهم يرتبطون به كمحررهم من العبودية الزمنية.


«غير أنه كان هنالك حق أعظم وجب أن ينطبع على عقولهم. فإذ كانوا عائشين في وسط الوثنية والفساد لم تكن لديهم فكرة صحيحة عن قداسة ﷲ أو عن شر قلوبهم العظيم وعجزهم التام في أنفسهم عن تقديم الطاعة لشريعة ﷲ وحاجتهم إلى مخلص. كان عليهم أن يتعلموا كل هذا» (روح النبوة، الآباء والأنبياء، صفحة ٣٢٥).


«إن شريعة ﷲ المنطوق بها بعظمة مهيبة في سيناء هي دينونة للخاطئ الأثيم. واختصاص الشريعة هو الإدانة، لكن ليس للشريعة قدرة على العفو أو الفداء» (تعليقات روح النبوة، موسوعة الأدفنتست التفسيرية، مجلد ٦، صفحة ١٠٩٤).




ملخص الدرس: إن إعطاء الناموس في سيناء لم يُبطل العهد الذي قطعه ﷲ مع إبراهيم، ولم يغيِّر الناموس كذلك أحكام الوعد وتدابيره. لقد أُعطي الناموس ليدرك الناس مدى إثمهم ومدى حاجتهم إلى وعد ﷲ لإبراهيم ولنسله.


الدرس السابع


٥ - ١١ آب (أغسطس)


الطريق إلى الإيمان






السبت بعد الظهر


المراجع الأسبوعية: غلاطية ٣: ٢١-٢٥؛ لاويين ١٨: ٥؛ رومية ٣: ٩-١٩؛ ١كورنثوس ٩: ٢٠؛ رومية ٣: ١و ٢؛ ٨: ١-٤.


آية الحفظ: «لكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ» (غلاطية ٣: ٢٢).


يُعرف الحمام الزاجل منذ أمد بعيد بقدرته على الطيران لمئات الأميال في اليوم والوصول إلى المكان المُرْسَل إليه بدقة مذهلة. ومع ذلك، فحتى أفضل الحمام الزاجل قد ينحرف ويضل عن اتجاهه الصحيح أحياناً، ولا يعود إلى النقطة التي انطلق منها. وقد حدثت أسوأ حادثة من هذا النوع في إنجلترا عندما لم يرجع حوالي ٢٥ ألف طير من الحمام الزاجل إلى أبراجه وإلى دياره (ولقد قُدّر ثمنها آنذاك بأكثر من ستمائة ألف دولار).


ومثلما اختبر معظمنا، بشكل أو بآخر، فإن الشعور بالضياع والانحراف هو شعور غير ممتع بالمرة إذ يملأنا بالخوف والقلق والتوتر؛ وقد يقودنا إلى لحظات من الرعب، كذلك.


وينطبق الشيء نفسه على المجال الروحي. فحتى بعد قبولنا للمسيح، نحن يمكن أن نضيع، أو ننحرف، بل وحتى لدرجة أننا قد لا نعود إلى الرب أبداً.


والأخبار السارة، مع ذلك، هي أن الرب لا يتركنا إلى أنفسنا. فهو قد رسم لنا الطريق إلى الإيمان كما هو معلن في الإنجيل، ويشمل هذا الطريق الناموس. ويحاول كثير من الناس فصل الناموس عن الإنجيل (البشارة)؛ بل البعض يراهما حتى متناقضين. وهذا ليس رأياً خاطئاً فحسب، وإنما يمكن أن تكون له عواقب وخيمة ومأساوية. فبدون الناموس لن يكون لدينا بشارة. فمن الصعب، حقيقة، فَهم بشارة الإنجيل بدون الناموس.


*نرجو التعمق في موضوع هذا الدرس استعداداً لمناقشته يوم السبت القادم الموافق ١٢ آب (أغسطس).




الناموس والوعد


«فَهَلِ النَّامُوسُ ضِدُّ مَوَاعِيدِ اللهِ؟» (غلاطية ٣: ٢١).


لإحساس بولس بأن تعليقاته قد تقود معارضيه إلى استنتاج أنه يَنْظُر إلى الناموس بعين الاستخفاف، أو إلى استنتاج أن تعليقاته حول أولوية وعود ﷲ كانت مجرد طريقة مستترة للتقليل من شأن موسى والتوراة، فقد طرح بولس على معارضيه نفس السؤال الذي كان يجول بخاطرهم: «فَهَلِ النَّامُوسُ ضِدُّ مَوَاعِيدِ اللهِ». ويرد بولس على هذا السؤال بكلمة «لا» مؤكدة. فاستنتاج مثل هذا هو أمر مستحيل، لأن ﷲ لا يناقض نفسه. فالله هو الذي أعطي كلاً من الوعد والناموس. والناموس ليس على خلاف مع الوعد. فكل واحد من الاثنين له مهام ووظائف مختلفة في خطة ﷲ الشاملة للخلاص.


أية مفاهيم خاطئة كانت لدى معارضي بولس بشأن دور الناموس؟ قارن غلاطية ٣: ٢١؛ لاويين ١٨: ٥ وتثنية ٦: ٢٤.


لقد اعتقد هؤلاء الناس أن الناموس كان قادراً على منحهم حياة روحية. وربما نشأت وجهات نظرهم هذه عن التفسير الخاطئ لفقرات ومقاطع من الكتاب المقدس مثل لاويين ١٨: ٥ وتثنية ٦: ٢٤، حيث يعطي الناموس توجيهاته بشأن الكيفية التي ينبغي أن يعيش بها أولئك الذين يثبتون في عهد ﷲ وميثاقه. لقد نظّم الناموس بالفعل حياة مَن هم داخل العهد، لكن خصوم بولس استنتجوا أن الناموس كان مصدر علاقة الشخص مع ﷲ. مع ذلك، فالكتاب المقدس واضح في تأكيده على أن القدرة على منح الحياة هي نشاط يمارسه ﷲ وروحه فقط (٢ملوك ٥: ٧؛ نحميا ٩: ٦؛ يوحنا ٥: ٢١؛ رومية ٤: ١٧). ولا يستطيع الناموس أن يجعل الجميع أحياء روحياً. وهذا لا يعني، مع ذلك، أن الناموس مُعارض ومُناقض لوعد ﷲ.


وفي مسعى من بولس لإثبات عدم قدرة الناموس على منح الحياة، نجده يكتب الآتي في غلاطية ٣: ٢٢: «لكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ». ويشير بولس في رومية ٣: ٩-١٩، إلى مجموعة من الآيات المأخوذة من العهد القديم ليظهر مدى فسادنا. ولم يربط بولس بين هذه الآيات وبعضها البعض بطريقة عشوائية، لكنه بدأ بجوهر معضلة الخطية — الموقف الأناني الذي ابتليت به قلوب البشر — ومن هناك ينتقل إلى الآيات التي تصف توغل الخطية وتدميرها للعالم.


وما هي نقطة بولس هنا؟ إنه نظراً لمدى انتشار الخطية ومحدودية الناموس، فإن الوعد بالحياة الأبدية يمكن أن يأتينا فقط من خلال أمانة المسيح وإخلاصه نيابة عنا. هنا، ثانيةً، توجد الحقيقة العظمى التّي حركت نهضة الإصلاح البروتستانتي.






«مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ»


يكتب بولس في غلاطية ٣: ٢٣ أنه «قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ». ويشير بولس بكلمة «كنا» إلى المؤمنين بالمسيح من اليهود في الكنائس بغلاطية. وهم الذين كانوا على بيِّنة من الناموس، ولقد كان بولس يتحدث إليهم هم على وجه الخصوص بدءاً من غلاطية ٢: ١٥. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المقارنة بين «كنا [أي نحن]» في غلاطية ٣: ٢٣ و«أَنَّكُمْ [أي أنتم]» في غلاطية ٣: ٢٦.


تُقرأ غلاطية ٣: ٢٣ كما يلي، «قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ»؛ لكنها تُقرأ حرفياً في اللغة اليونانية هكذا «قبل الإيمان» جاء. ولأن بولس يقارن بين مكانة الناموس قبل وبعد المسيح (غلاطية ٣: ٢٤)، فالأمر الأكثر احتمالاً هو أن يكون «الإيمان» إشارة إلى إيماننا وليس إشارة إلى الإيمان المسيحي بصفة عامة.


يقول بولس أن اليهود قبل مجيء المسيح كانوا محروسين «تحت الناموس». ما الذي يعنيه بولس بـ «تَحْتَ النَّامُوسِ»؟ قارن غلاطية ٣: ٢٢و ٢٣ برومية ٦: ١٤و ١٥؛ ١كورنثوس ٩: ٢٠؛ غلاطية ٤: ٤ و ٥ و ٢١؛ ٥: ١٨.


١. يستخدم بولس عبارة «تحت الناموس» ١٢ مرة في رسائله.


«تحت الناموس» بمعنى أن تكون تحت سيطرة، أو عقوبة، الناموس (غلاطية ٤: ٢١). وكان معارضو بولس في غلاطية يحاولون مجدداً الحصول على برِّ مانح للحياة من خلال الطاعة. مع ذلك، وكما سبق لبولس وأن أوضح، فهذا أمر مستحيل (غلاطية ٣: ٢١و ٢٢) لأنه بدون المسيح نحن لا نستطيع إطاعة الناموس. وسوف يوضّح بولس فيما بعد بأنّهم برغبتهم في أن يظلّوا تحت الناموس فإنهم بذلك يرفضون المسيح حقيقةً (غلاطية ٥: ٢-٤).


٢. «تحت الناموس» تتضمن أن تكون تحت دينونته (رومية ٦: ١٤و ١٥). ولأن الناموس لا يمكنه التكفير عن الخطية، فإن انتهاك مطالبه ينتج عنه الإدانة في نهاية المطاف. وهذا هو الحال الذي يجد جميع البشر أنفسهم فيه. فإن الناموس هو بمثابة مدير سجن يحبس جميع مَن انتهكوا هذا الناموس وجلبوا على أنفسهم عقوبة الموت. وكما سنرى في درس الغد، فإن استعمال بولس لكلمة مَحْرُوس (غلاطية ٣: ٢٣) تشير إلى أن ما يعنيه بولس بعبارة «تحت الناموس» في هذا المقطع هو أننا محبوسون أو « مُغْلَقٌ عَلَيْنَا».


وهناك كلمة يونانية ذات صلة وهي «ennomos» وتترجم هذه الكلمة عادة «تحت الناموس»، وهي تعني حرفياً «في حدود الناموس» وتشير إلى العيش في حدود متطلبات الناموس من خلال اتحادنا مع المسيح (١كورنثوس ٩: ٢١). وتعني عبارة بـ «أعمال الناموس» أنه من المستحيل أن تكون مبرراً من خلال محاولة حفظ الناموس بمعزل عن المسيح، لأن فقط المبررين بالإيمان هم مَن سيَحْيَون (غلاطية ٣: ١١). وهذا الحق لا يبطل الناموس؛ إنما يظهر فقط أن الناموس لا يمكنه منحنا الحياة الأبدية. فإنَّ الناموس بعيد كلّ البعد عن القيام بذلك.




الناموس كـ «حارس» لنا


يقدم لنا بولس استنتاجين أساسين بشأن الناموس: (١) إن الناموس لا يلغي وعد ﷲ الذي قطعه مع إبراهيم أو يبطله (غلاطية ٣: ١٥-٢٠)؛ (٢) إن الناموس لا يتعارض مع الوعد أو يناقضه (غلاطية ٣: ٢١و ٢٢).


فما الدور، إذن، الذي يلعبه الناموس؟ يكتب بولس قائلاً أن الناموس قد زِيد «بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ» (غلاطية ٣: ١٩)، وهو يتوسع في هذه الفكرة مستخدماً ثلاث كلمات أو عبارات فيما يتعلق بالناموس: مَحْرُوسِينَ (عد ٢٣)، مُغْلَقًا (عد ٢٣)، ومُؤَدِّبَنا (عد ٢٤).


اقرأ بحرصٍ وبروح الصلاة غلاطية ٣: ١٩- ٢٤. ما الذي يقوله بولس بشأن الناموس؟


تستخدم معظم الترجمات الحديثة للكتاب المقدس مصطلحات سلبية تماماً للتعبير عن تعليقات بولس حول الناموس في غلاطية ٣: ١٩. لكن الأصل في اللغة اليونانية ليس بهذه السلبية تقريباً. فالكلمة اليونانية المترجمة «مَحْرُوسِ» (عد ٢٣) تعني حرفياً «أن تحرس». ورغم أنه من الممكن استعمالها بشكل سلبي مثل أن «تحتجز بقمع وبإخضاع» أو أن «تراقب» أو أن «تمْسِكَ» (٢كورنثوس ١١: ٣٢)، إلاَّ أن هناك مَعَانٍ أكثر إيجابية لهذه الكلمة في العهد الجديد مثل «أن يَحْفَظ» أو «أن يحمي» (فيلبي ٤: ٧؛ ١بطرس ١: ٥) [وإن كانت الكلمة المستخدمة في اللغة العربية بهذين المرجعين مشتقة من «حَرَسَ»، أيضاً]. والشيء ذاته ينطبق على الكلمة المترجمة «أَغْلَقَ» (تكوين ٢٠: ١٨)، «اسْتَغْلَقَ؛ مُغَلَّقَةً؛ مُقَفَّلَةً؛ أُغْلِقَ» (خروج ١٤: ٣؛ يشوع ٦: ١؛ إرميا ١٣: ١٩)، «أَمْسَكُوا» (لوقا ٥: ٦)، أو «أَغْلَقَ» (رومية ١١: ٣٢). وكما تشير هذه الأمثلة، فإنه يمكن أن يكون للكلمة معانٍ متضمنة، إما سلبية أو إيجابية، وذلك وفقاً للمضمون الذي تَرِد فيه.


ما هي الفوائد والمنافع التي وفّرها الناموس (سواء الناموس الأدبي أو الطقسي) لشعب إسرائيل قديماً؟ رومية ٣: ١و ٢؛ تثنية ٧: ١٢-٢٤؛ لاويين ١٨: ٢٠-٣٠.


وفي حين كان بإمكان بولس أن يتحدث عن الناموس بتعابير سلبية (رومية ٧: ٦؛ غلاطية ٢: ١٩)، غير أنه كان لديه الكثير من الأمور الإيجابية أيضاً ليقولها عن الناموس (انظر رومية ٧: ١٢و ١٤؛ ٨: ٣و ٤؛ ١٣: ٨؛ ١٣: ٨). ولم يكن الناموس لعنة وضعها ﷲ على إسرائيل؛ بالعكس، لقد قُصد له أن يكون بركة. ورغم أن نظام الذبائح التكفيرية فيه (أي في الناموس الطقسي) لم يمكنه محو الخطية نهائياً، إلا أنه أشار إلى المسيّا الموعود وهو الذي بإمكانه محو الخطية نهائياً. كما كانت أحكام الناموس التي توجّه السلوك البشري مصدر حماية لشعب إسرائيل من العديد من الرذائل والمفسدات التي اُبتليت بها الحضارات القديمة الأخرى. وفي ضوء تعليقات بولس الإيجابية حول الناموس في أماكن أخرى، يكون من الخطأ فهم تعليقاته هنا بطريقة سلبية تماماً.






النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا


في غلاطية ٣: ٢٣، يصف بولس الناموس على أنه قوة حارسة وواقية. بما يشبه بولس الناموس في عد ٢٤، وماذا يعني ذلك؟


إن الكلمة المترجمة «مؤدِّب» تأتي من الكلمة اليونانية «paidagogos». وتستخدم بعض الترجمات، كلمة «مُضْبِط» أو «معلِّم» أو حتى «وَصِي» أو «مُربي»، ولكن لا توجد كلمة واحدة تشمل المعنى الكامل لهذه الكلمة. ولقد كان الـ «paidagogos» هو العبد الذي يُوضع في موضع السلطة على أبناء السّيد الذي يخدمه في المجتمع الروماني بدءاً من الوقت الذي يبلغ فيه ابن السّيد السادسة أو حتى السابعة من العمر إلى أن يبلغ سن الرّشد والنضوج. وبالإضافة إلى قيام هذا المُربّي بتوفير الاحتياجات الجسدية للشخص المكلف برعايته، مثل تعليمه كيفية استخدام الحمام وتزويده بالطعام والثياب وحمايته من أي خطر، فقد كان مثل هذا المربي مسئولاً أيضاً عن التأكد من ذهاب أولاد سيده إلى المدرسة وتأديتهم للفروض المدرسية. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه لم يكن متوقع لهذا المربي تعليم الفضائل للأولاد (وممارسته هو نفسه لهذه الفضائل) فحسب، وإنما كان عليه التأكُّد أيضاً من أن الأولاد قد تعلموا هذه الفضائل بالفعل وزاولوها أنفسهم.


وعلى الرغم من أنه لابد وأن بعضاً من هؤلاء المُربيين «pedagogues» كانوا عطوفين على الأولاد الذين يقومون بتربيتهم، وكانوا كذلك محبوبين من قِبل الأولاد القُصَّر الذين كانوا تحت مسئوليتهم، إلاَّ أن الوصف المهيمن الذي كان يتسم به أمثال أولئك المربيين في الأدب القديم هو «المؤدب الصارم». ولقد كان أولئك المؤدبين يَكْفلون إطاعة الأولاد القُصَّر لهم ليس فقط من خلال التهديدات القاسية والتوبيخ ولكن أيضاً بواسطة الضرب بعصا الخيزران والجلد بالسياط.


ووصف بولس للناموس بأنه مُؤدِب أو مُرَبي يزيد من توضيح مفهوم بولس للدور الذي يقوم به الناموس. لقد زِيدَ الناموس لكي يشير إلى الخطية وليوفر التعليمات اللازمة. والطبيعة الأساسية لهذه المهمة تعني أن الناموس كانت له جوانب سلبية أيضاً، وذلك لأن الناموس يؤنبنا ويديننا كخطاة. ومع ذلك، فإن ﷲ يستخدم حتى الجوانب «السلبية» هذه لمنفعتنا وفائدتنا، لأن الدينونة التي يجلبها الناموس هي ما يقودنا إلى المسيح. وهكذا، فإن الناموس وبشارة الإنجيل ليسا متناقضين. فلقد صاغهما ﷲ كليهما ليعملا معاً من أجل خلاصنا.


«وفي هذه الفقرة الكتابية [غلاطية ٣: ٢٤]، يتحدث الروح القدس من خلال بولس عن الناموس الأدبي. حيث يكشف الناموس لنا الخطية، ويدفعنا إلى الشعور بحاجتنا إلى المسيح وإلى الهرب إليه طلباً في العفو والصفح والسلام من خلال مزاولة التوبة إلى ﷲ والإيمان في ربنا يسوع المسيح» (روح النبوة، رسائل مختارة، مجلد ١، صفحة ٢٣٤).






الناموس والمؤمن (غلاطية ٣: ٢٥)


فسَّر الكثيرون تعليق بولس في غلاطية ٣: ٢٥ على أنه رفض كامل للناموس. لكن هذا، مع ذلك، لا يبدو منطقياً في ضوء تعليقات بولس الإيجابية عن الناموس في أماكن أخرى بالكتاب المقدس.


فما الذي يعنيه بولس إذن في هذه الآية؟


أولاً، نحن لم نعد تحت دينونة الناموس (رومية ٨: ٣). وكمؤمنين، نحن ننتمي إلى المسيح. وكوننا مِلْكَاً له فإننا نتمتع بامتياز كوننا تحت سلطان النعمة (رومية ٦: ١٤و ١٥). وكوننا تحت سلطان النعمة يُحرِّرنَا ويُمَكّن المسيحَ مِن أن يعمل فينا. وهذا يعطينا الحرية لخدمة المسيح بكل إخلاص، وبدون خوف من أن ندان بسبب الأخطاء التي قد نرتكبها أثناء عمل ذلك. هذا هو المعنى الحقيقي للحرية في بشارة الإنجيل، وهذا شيء يختلف اختلافاً جذرياً عن فكرة أننا لم نعد مُلْزَمين بحفظ الناموس — ويزعم البعض أن عدم الالتزام بحفظ الناموس هو «الحرية» في المسيح. لكن عصيان الناموس، مع ذلك، هو خطية — والخطيّة هي غياب الحريّة (يوحنا ٨: ٣٤).


اقرأ رومية ٨: ١-٣. ما معنى أنك لم تعد تحت دينونة الناموس؟ كيف يؤثر هذا الحق الرائع في الطريقة التي نعيش بها حياتنا؟


ونتيجة لكوننا قد حصلنا على الغفران من خلال المسيح، فإن علاقتنا بالناموس تختلف الآن. نحن الآن مدعوون لأن نعيش حياة مُرْضية لله (١تسالونيكي ٤: ١). يشير بولس إلى ذلك على أنه «السلوك [الانقياد] بالروح» (غلاطية ٥: ١٨). هذا لا يعني أن الناموس الأدبي لم يعد قابلاً للتطبيق أو ساري المفعول — هذا لم يكن المقصود أبداً. فكيف يكون كذلك وقد رأينا بوضوح كبير أن الناموس الأدبي هو ما يعرِّف الخطية وأن الناموس الأدبي هو الناموس المكتوب على قلوبنا؟


بدلاً من ذلك، ولأن الناموس هو نسخة من سجايا ﷲ، فإننا نعكس سجايا ﷲ من خلال إطاعتنا للناموس. ولكن الأكثر من ذلك هو أننا لا نتبع فقط مجموعة من القوانين ولكننا نتبع مثال المسيح، الذي يفعل من أجلنا ما لا يستطيع الناموس في حد ذاته عمله: فالمسيح يكتب الناموس على قلوبنا (عبرانيين ٨: ١٠) ويجعل من الممكن أن «يَتِمَّ حُكْمُ النَّامُوسِ فِينَا» (رومية ٨: ٤). معنى هذا أنه من خلال علاقتنا بالمسيح تكون لدينا القدرة على إطاعة الناموس بصورة لم تحدث أبداً من قبل.






لمزيد من الدرس: «سُئِلْتُ بخصوص الناموس في غلاطية. أي ناموس هو المُؤَدِب الذي يأتي بنا إلى المسيح؟ وإجابتي هي: الناموسان كلاهما، الناموس الطقسي والناموس الأدبي المتمثل في الوصايا العشر.


«لقد كان المسيح هو أساس الطقوس اليهودية. وكان موت هابيل نتيجة لرفض قايين قبول خطة ﷲ في مدرسة الطاعة ورفضه ليكون مخلَّصَاً بدم يسوع المسيح المرموز إليه بذبائح التقدمات التي كانت تشير إلى يسوع. لقد رفض قايين سفك الدم الذي كان يرمز إلى دم المسيح الذي كان سيُسفك من أجل العالم. ولقد أُعِدَ هذا الطقس برمته من قِبل ﷲ، وأصبح المسيح أساس هذا النظام بأكمله [نظام الطقوس اليهودية]. وكان التأديب هو بداية عمل هذا الطقس من خلال توجيه البشرية الآثمة إلى إمعان النظر في المسيح باعتباره أساس النظام اليهودي بأكمله.


«وبالنسبة لكل مَن كانوا يقومون بخدمات لها علاقة بالمسكن، فقد كان يتم تثقيفهم بشكل مستمر عن الأمور المتعلقة بتدخُّل المسيح نيابة عن الجنس البشري. ولقد صُممت هذه الخدمة (خدمة المسكن) لتنشئ بداخل كل قلب محبة لناموس ﷲ، الذي هو ناموس ملكوته» (روح النبوة، رسائل مختارة، مجلد ١، صفحة ٢٣٣).


«لا ينبغي النظر إلى ناموس الوصايا العشر من جانبه التَحْرِيمِيّ فقط وإنما ينبغي التفكير في جانب الرحمة المتضمن فيه كذلك. فإن ما يمنعنا الناموس من عمله هو ضمان السعادة التي نحصل عليها من خلال الطاعة. وإذ نَقْبَل ونَتَسَلَّم هذا الناموس في المسيح، فإنه (الناموس) سيعمل فينا عمل تطهير الصفات الذي سيجلب لنا الفرح لدهور الأبدية. فالناموس بالنسبة للمطيع هو سياج حماية» (روح النبوة، رسائل مختارة، صفحة ٢٣٥).




ملخص الدرس: لقد أُعطي الناموس لينبِّه الخطاة إلى حاجتهم إلى المسيح. وكحارس، فهو يوفر التعليم عن ﷲ والحماية من الشر. لكن الناموس كمؤدب يشير إلى إثمنا ويجلب علينا الدينونة. والمسيح هو مَن يحررنا مِن دينونة الناموس ويكتب ناموسه على ألواح قلوبنا.


الدرس الثامن


١٢- ١٨ آب (أغسطس)


من عبيد إلى ورثة






السبت بعد الظهر


المراجع الأسبوعية: غلاطية ٣: ٢٦-٤: ٢٠؛ رومية ٦: ١-١١؛ عبرانيين ٢: ١٤-١٨؛ ٤: ١٤و ١٥؛ رومية ٩: ٤و ٥.


آية الحفظ: «إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا، وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ للهِ بِالْمَسِيحِ» (غلاطية ٤: ٧).


يقول بولس لأهل غلاطية أن عليهم أن يعيشوا ويتصرفوا ليس كعبيد بل كأبناء وبنات لله، مع التمتع بكل الحقوق والامتيازات المتضمنة في ذلك. إنه الحقّ الذي كان يتوق مارتن لوثر أن يسمعه. فإنه إذ قد تعّمقت قناعاته بمدى إثمه، حاول أن يحصل على العفو والسلام بأعماله. عاش حياة التقوى الكاملة، مجاهداً بالصوم والسهر وضرب جسده بالسياط لكبح جماح شهوته التي لم تخلّصه منها حياته في الأديرة. ولقد انزعج لعدم وجود ذبيحة يحصل من خلالها على نقاء القلب الذي يمكّنه من الوقوف مقبولاً أمام ﷲ. لقد كان، كما أدلى بعد ذلك، راهباً تقيّاً اتّبع بتدقيق قواعد نظامه في الرهبنة بتقشّف، ومع ذلك لم يحصل على سلام داخلي. قال لوثر: «فلو كانت السماء في متناول أي راهب، لكنت أوّل المستحقين.» ومع ذلك، فإن كل مساعيه لم تفلح في منحه ما كان يتوق إليه.


نحن، أيضاً، ورثة ﷲ، ليس بسبب استحقاقنا ولكن بسبب نعمته. وفي المسيح نحن لدينا أكثر بكثير حتى مما كان لدينا قبل خطية آدم؛ وكان هذا من بين الأمور التي كان يحاول بولس بشدة تعليمها لمؤمني غلاطية، الذين كانوا يضلون طريقهم.


فقط عندما بدأ مارتن لوثر مؤخّراً يفهم حقيقة الخلاص بالمسيح كما هي معلنةٌ في الرسالة إلى أهل غلاطية، حتّى بدأ يتنفّس الحريّة الدينيّة الروحيّة والرجاء لنفسه. وكنتيجةٍ لذلك، لم يعدُ عالمنا كما كان.


*نرجو التعمق في موضوع هذا الدرس استعداداً لمناقشته يوم السبت القادم الموافق ١٩ آب (أغسطس).




حالتنا في المسيح (غلاطية ٣: ٢٦-٢٩)


مع الاحتفاظ بغلاطية ٣: ٢٥ في الذهن، اقرأ غلاطية ٣: ٢٦. كيف تساعدنا هذه الفقرة على أن نفهم ما هي علاقتنا بالناموس الآن بعد أن اُفتدينا بواسطة يسوع؟


إن كلمة «لأَنَّ» الموجودة في بداية عدد ٢٦ تشير إلى أن بولس كان يرى أن هناك صلة مباشرة بين هذه الآية والآية التي تسبقها. فبنفس الطريقة التي كان فيها ابن السّيد تحت وصاية عَبْد يعمل كمربٍ لهذا الولد، فقط طالما كان الولد قاصراً، يقول بولس أن أولئك الذين يؤمنون بالمسيح ليسوا قُصَّراً بعد؛ فإن علاقتهم بالناموس قد تغيرت لأنهم بلغوا سن الرّشد إذ صاروا «أبناءً» لله.


وبطبيعة الحال، فإن كلمة أبناء لا تختص فقط بالذكور وتقتصر عليهم حيث أن بولس يشمل الإناث بوضوح في هذه الفئة (غلاطية ٣: ٢٨). أما السبب الذي من أجله يستعمل كلمة أبناء بدلاً من أطفال، فهو أن بولس كان يضع في الاعتبار الإرث العائلي الذي كان ينتقل إلى ذرية الأسرة من الذكور، جنباً إلى جنب مع حقيقة أن عبارة «أبناء ﷲ» كانت تسمية خاصة بشعب إسرائيل في العهد القديم (تثنية ١٤: ١؛ هوشع ١١: ١). وفي المسيح، يتمتع الأمميون الآن بالعلاقة الخاصة مع ﷲ والتي كانت مقتصرة على الإسرائيليين.


ما هو الأمر المتعلق بالمعمودية ويجعلها حدثاً ذات أهمية بالغة؟ غلاطية ٣: ٢٧و ٢٨؛ رومية ٦: ١-١١؛ ١بطرس ٣: ٢١.


إن استخدام بولس لكلمة «لأن» في عد ٢٧ يشير مرة أخرى إلى التوسع المنطقي لتفكيره. إذ يرى بولس المعمودية على أنها قرار جوهري وحتمي لتوحيد حياتنا مع المسيح. وفي رومية ٦، يصف بولس المعمودية بشكل رمزي كاتحاد لنا مع المسيح في كل من موته وقيامته. ويستخدم بولس في غلاطية استعارة مختلفة: فالمعمودية هي أن يلبس الشخصُ المسيحَ. والمصطلح الذي استخدمه بولس يذكِّرنا بفقرات رائعة في العهد القديم والتي تتحدث عن كون الإنسان لابساً للبِرّ والخلاص (انظر إشعياء ٦١: ١٠؛ أيوب ٢٩: ١٤). «وبولس يشبّه المعموديّة باللحظة التي فيها يضم المسيح المؤمن ويحتضنه مثل مَلْبَسٍ. ومع أنّ بولس لا يذكر البرّ صراحةً، إنّما هو يتحدث عنه عندما يصف لِبْس المعتمد لثوب برّ المسيح» [فرانك ج. ماتيرا، سفر غلاطية (كوليدج فايل، مينيسوتا: مطبعة لوتورجيال، ١٩٩٢)، صفحة ١٤٥].


إن اتحادنا مع المسيح، والذي يُرمز إليه من خلال المعمودية، يعني أن ما يحق للمسيح يحق لنا نحن أيضاً. ولأن المسيح هو «نسل» إبراهيم، لذا فالمؤمنون بصفتهم «وَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ» (رومية ٨: ١٧)، هم أيضاً وَارِثُونَ لكل وعود العهد التي قُطِعت لإبراهيم ولنسله.






مستعبدون للأركان الضعيفة


بعد أن قارن بولس علاقتنا بالله كتلك التي للأبناء والورثة، يبدأ بالتوسع في هذا التشبيه بما في ذلك موضوع الوراثة في غلاطية ٤: ١-٣. وتصف مصطلحات بولس حالة فيها يموت أحد مالكي العقارات الكبيرة تاركاً كل ممتلكاته إلى ابنه الأكبر. إلاَ أن الابن الأكبر لهذا الرجل، مع ذلك، كان لا يزال قاصراً. وكما هو الحال في أغلب الأحيان الحال، فيما يتعلق بالوصية والوصاية حتى في عصرنا الحالي، فإن وصية الأب تشترط أن يكون ابنه تحت رقابة (وصاية) أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ إلى أن يبلغ الابن سن الرشد. وبالرغم من أن هذا الابن هو سيدٌ على ممتلكات أبيه، إلاَّ أنه، كابن قاصر، لا يزيد كثيراً عن العبد من الناحية العملية [أي فيما يتعلق بمقدرته على التصرُّف في الأملاك التي ورثها عن أبيه].


وتشبيه بولس مماثل لذلك الذي للمربي أو المؤدب في غلاطية ٣: ٢٤، لكن سلطة الوكلاء والمدراء في هذه الحالة تفوق بكثير تلك السلطة التي للمؤدب وتتخطاها في الأهمية. فهؤلاء الوكلاء ليسوا مسئولين عن تربية ابن السيد فحسب وإنما هم أيضاً مسئولون عن كل الشؤون المالية والإدارية الخاصة بهذا الابن، حتّى بلوغ الابن السنّ القانوني، عندها يباشر هذه المهامّ بنفسه.


اقرأ غلاطية ٤: ١-٣. ما الذي يقوله بولس هنا وينبغي، مرة أخرى، أن يساعد في توضيح الدور الذي يجب أن يقوم به الناموس في حياتنا، حيث أننا الآن في المسيح؟


إنَّ ما يعنيه بولس بعبارة «أَرْكَانِ الْعَالَمِ» (غلاطية ٤: ٣و٩)، لا يزال أمراً متنازعاً عليه. والكلمة اليونانية « stoicheia» تعني حرفياً «عناصر أو عوامل». ولقد نظر إليها البعض على أنها وصف للعناصر الأساسية التي تشكّل الكون (٢بطرس ٣: ١٠و ١٢)؛ أو على أنها القوى والسلطات الشيطانية التي تسيطر على هذا العصر الشرير (كولوسي ٢: ١٥)؛ أو على أنها المبادئ الأولية للحياة الدينية أو أساسيات الدين «أَرْكَانُ بَدَاءَةِ» (عبرانيين ٥: ١٢). ويوحي تركيز بولس على حالة البشر ووصفهم بأنهم كانوا قبل مجيء المسيح كالـ «قاصرين» (غلاطية ٤: ١-٣) إلّا أن بولس كان يشير هنا إلى المبادئ الأولية للحياة الدينية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن ما يقوله بولس هنا هو أن فترة العهد القديم، بقوانينها ونظام ذبائحها، كانت مجرد تمهيد للبشارة التي أجملت وحددت أساسيات الخلاص. وهكذا، فإنه رغم أهمية النواميس الطقسية ورغم ما كانت تشتمل عليه من تعليمات لشعب إسرائيل قديماً، إلاَّ أنها لم تكن سوى ظلال لما كان عتيداً بأن يأتي. ولم يكن المقصود لهذه النواميس أبداً أن تأخذ مكان المسيح.


لذا فإن قيام الشخص بتنظيم حياته لتتمحور حول هذه النواميس بدلاً من أن تتمحور حول المسيح هو بمثابة الرجوع بالزمن. وبالنسبة لمؤمني غلاطية، فقد كان رجوعهم إلى أركان البداءة هذه، بعد أن جاء المسيح بالفعل، هو بمثابة رغبة الابن الراشد، في التشبيه الذي أعطاه بولس، إلى أن يكون قاصراً مرة أخرى!






«أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ» (غلاطية ٤: ٤)


«وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ» (غلاطية ٤: ٤).


إن اختيار بولس لكلمة «مِلْء» تشير إلى دور ﷲ النشط في إتمام قصده في تاريخ البشرية. لم يأتِ المسيح في مجرد أي وقت؛ بل لقد جاء في الوقت الدقيق الذي أعده ﷲ. ومن منظور تاريخي، يُعرف هذا الزمان باسم «the Pax Romana» أو (السلام الروماني)، وهي فترة ٢٠٠ عام من الاستقرار والسلام النسبيين اللذين سادا كل أرجاء الإمبراطورية الرومانية. فلقد عملت الانتصارات التي حققتها روما في بلدان البحر الأبيض المتوسط على ترسيخ سلام منشود ولغة مشتركة ووسائل سفر ملائمة، ووجود ثقافة مشتركة كذلك. كل هذه الأمور سهَّلت من سرعة انتشار بشارة الإنجيل. ومن منظور الكتاب المقدس، فقد كانت هذه الفترة هي الوقت الذي عيَّنه ﷲ لمجيء المسيَّا الموعود (انظر دانيال ٩: ٢٤-٢٧).


لماذا كان على المسيح أن يلبس بشريتنا لكي يفدينا؟ يوحنا ١: ١٤؛ غلاطية ٤: ٤و ٥؛ رومية ٨: ٣و ٤؛ ٢كورنثوس ٥: ٢١؛ فيلبي ٢: ٥-٨؛ عبرانيين ٢: ١٤-١٨؛ ٤: ١٤و ١٥.


تحتوي غلاطية ٤: ٤و ٥ على أكثر فقرات الإنجيل شرحاً وإيجازاً للبشارة في الكتاب المقدس. فلم يكن قدوم المسيح إلى تاريخ البشرية محض صدفة أو حدث عرضي. «لقد أرسل ﷲ ابنه». بكلمات أخرى، ﷲ هو الذي أخذ المبادرة لخلاصنا.


أيضاً يُضَمَّن في كلمات الإنجيل الإيمان المسيحي الراسخ بألوهيّة المسيح (يوحنا ١: ١-٣و ١٨؛ فيلبي ٢: ٥-٩؛ كولوسي ١: ١٥-١٧). فالله لم يرسل رسولاً سماوياً إنما جاء، هو، بذاته، لأن ﷲ وحده هو الذي يستطيع أن يُخلِّصنا.


وبالرغم من أن المسيح كان الابن الأزلي لله، إلا أنه «وُلد من امرأة». ورغم أن ولادة المسيح من العذراء متضمنة في هذه العبارة، إلاَّ أنها تؤكد بشكل أكثر تحديداً حقيقة تجسّده.


ولا تشير عبارة «تحت الناموس» إلى أصل المسيح اليهودي فحسب ولكنها تتضمن أيضاً حقيقة أنه حَمل دينونتنا، وأنه وُلِدَ كي يموت مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا.


لقد كان ضرورياً بالنسبة للمسيح أن يأخذ بشريتنا وذلك لأننا لا نستطيع تخليص أنفسنا. ومن خلال توحيد طبيعته الإلهية بطبيعتنا البشرية الساقطة، تأهل المسيح بصفة قانونية لأن يكون بديلنا ومخلصنا ورئيس كهنتنا. وكآدم الثاني، فقد جاء المسيح لاسترداد كل ما كان آدم الأول قد ضيَّعه من خلال عصيانه (رومية ٥: ١٢-٢١). ولقد أتم المسيح بطاعته مطاليب الناموس بالتمام، وهكذا افتدى (عَوَّضَ) المسيحُ الفشل المأساوي لآدم. وبموته على الصليب، تمم المسيح عدالة الناموس الذي كان يتطلَّب موت الخاطئ، وهكذا حصل المسيح على الحق في افتداء كل مَن يأتون إليه بإيمان حقيقي صادق، وبخضوع وبتسليم.




امتيازات التبنّي (غلاطية ٤: ٥-٧)


في غلاطية ٤: ٥-٧، يتوسع بولس في موضوعه مؤكداً على أن المسيح جاء «لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ» (عد ٤و٥). وتعني كلمة «يَفْتَدِيَ» أن «تشترى شيئاً ما (الشيء ذاته) مجدداً». وهي تشير إلى الثمن الذي يُدفع لشراء حرية إما رهينة أو عبد. وكما يشير هذا السياق، فإن الفداء يشير ضمناً إلى خلفية سلبية: فهو يشير إلى شخص بحاجة إلى أن يكون محرراً.


ما هو، مع ذلك، الشيء الذي نحن بحاجة إلى التحرر منه؟ يشير العهد الجديد إلى أربعة أمور من بين أمور أخرى: (١) التحرر من الشرير ومن حِيَلِهِ (عبرانيين ٢: ١٤و ١٥)، (٢) التحرر من الموت (١كورنثوس ١٥: ٥٦و ٥٧)، (٣) التحرر من قوة الخطية التي بالطبيعة تأسرنا (رومية ٦: ٢٢)، و (٤) التحرر من دينونة الناموس (رومية ٣: ١٩-٢٤؛ غلاطية ٣ :١٣و ٤: ٥).


ما هو الهدف الإيجابي الذي أحرزه المسيح لأجلنا من خلال الفداء الذي لنا فيه؟ غلاطية ٤: ٥-٧؛ أفسس ١: ٥؛ رومية ٨: ١٥و ١٦و ٢٣؛ ٩: ٤و ٥.


نحن في أغلب الأحيان نتحدث عما أنجزه المسيح لأجلنا على أنه «الخلاص». وبالرغم من صحة هذا المسمَّى، إلا أن هذه الكلمة ليست بنفس الوضوح والوصف التصويري الفريد باستخدام بولس لكلمة «التَّبنّي» (huiothesia). وعلى الرغم من أن بولس هو الكاتب الوحيد من كتبة العهد الجديد الذي يستخدم هذه الكلمة، إلا أن التبني كان إجراءً قانونياً معروفاً في العالم اليوناني الروماني. ولقد استخدم الكثيرون من أباطرة روما التبني كوسيلة لاختيار خليفة للعرش عندما لم يكن هناك وريث شرعي لهم. ولقد كان التبني يضمن ويكفل عدداً من الامتيازات: «(١) يصبح الابن المتبنى ابناً حقيقياً ... للشخص الذي قام بتبنيه.... (٢) يوافق المتبنِّي على تنشئة الطفل بشكل سليم ومناسب وعلى توفير ضروريات الطفل المتبنَّى من غذاء وكساء. (٣) لا يمكن للمتبنِّي نبذ ابنه بالتبني. (٤) لا يمكن الإقلال والحط من شأن هذا الطفل وجعله عبداً. (٥) لا يحق لوالدي الطفل الأصليين المطالبة باسترداده واستعادته لهما. (٦) يكفل التبني ويرسِّخ حق المُتبنَّى في أن يرث متبنّيه» [ديريك أر. مور كريسبين، «غلاطية ٤: ١-٩: استخدام وإساءة استخدام المتوازيات والمقارنات، «الربع الإنجيلي، مجلد ٦١، رقم ٣، (١٩٨٩)، صفحة ٢١٦].


فإذا كانت هذه الحقوق مكفولة ومضمونة على المستوى الأرضي (الإنساني) للتبني، فَلَكَ فقط أن تتصور مدى ما لدينا نحن، كأبناء ﷲ بالتبني، مِن امتيازات أعظم!






فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ ...تُسْتَعْبَدُوا... مِنْ جَدِيدٍ؟

(غلاطية ٤: ٨-٢٠)


اقرأ غلاطية ٤: ٨-٢٠. لخِّص في السطور التالية ما يقوله بولس هنا. ما مدى جدِّية بولس في تعامله مع التعاليم الخاطئة بين مؤمني غلاطية؟


إن بولس لا يصف الطبيعة الدقيقة والمحددة لممارسات أهل غلاطية الدينية، لكن من الواضح أنه كان يقصد نظاماً خاطئاً للعبادة أدى بهم إلى العبودية الروحية. في الحقيقة، لقد اعتبر بولس هذا النظام الديني الخاطئ نظاماً شديد الخطورة والهدم لدرجة أنه قام بكتابة مثل هذه الرسالة المتقدة محذراً أهل غلاطية من أن ما كانوا يفعلونه كان أقرب إلى الابتعاد عن البُنُوّة والرجوع إلى العبودية.


رغم عدم خوضه في التفاصيل، ما الذي يقول بولس أن أهل غلاطية كانوا يفعلونه ووجده بغيضاً جداً؟ غلاطية ٤: ٩-١١.


لقد فسر الكثيرون إشارة بولس إلى «أَيَّامًا وَشُهُورًا وَأَوْقَاتًا وَسِنِينَ» (غلاطية ٤: ١٠) على أنها ليست مجرد اعتراض على النواميس الطقسية وإنما اعتراض على السبت، أيضاً. إلا أن تفسيرات مثل هذه، مع ذلك، لا تمتلك دليلاً على ما تزعمه. أولاً، إذا كان بولس يريد حقاً الإشارة إلى السبت أو إلى بعض الممارسات اليهودية الأخرى، فإنه يتضح أن بولس كان بإمكانه بسهولة تحديد هذه الأمور بالاسم. ثانياً، يوضح بولس أن كل ما كان أهل غلاطية يفعلونه قد أبعدهم عن الحرية في المسيح ودفع بهم إلى العبودية. «إذا كان حفظ اليوم السابع سبتاً يُخْضع الإنسان للعبودية، إذن فلا بد وأن الخالق نفسه قد دخل إلى العبودية عندما حفظ السبت الأول في تاريخ العالم» (روح النبوة، موسوعة الأدفنتست السبتيين التفسيرية، مجلد ٦، صفحة ٩٦٧). وأيضاً، إذا كان حفظ السبت بالطريقة المناسبة يحرم الناس من الحرية التي كانت لهم فيه [أي المسيح]، فلماذا إذن لم يكتفِ المسيح بحفظ السبت وإنما علَّم الآخرين كيفية حفظه؟ (انظر مرقس ٢: ٢٧و ٢٨؛ لوقا ١٣: ١٠-١٦).






لمزيد من الدرس: «اتخذت التدابير في مجمع السماء بعدم هلاك البشر في عصيانهم، رغم تعدّيهم. وصار بإمكانهم، من خلال الإيمان بالمسيح كبديل عنهم وضامن لهم، أن يصبحوا مختاري ﷲ المعينين لِنَيل التَّبَنِّيَ كأبناء لله بواسطة يسوع المسيح الذي جذبهم إلى نفسه تبعاً لمسَرة مشيئته. وﷲ يريد أنّ كلّ الناس يخلصون؛ لأنّ فرصةً عظيمةً قد مُنحت بإعطاء ابنه الوحيد ليدفع الفدية عن الإنسان.


«وإنَّ مَن سيهلكون سيكون سبب هلاكهم هو رفضهم لأن يكونوا أبناء ﷲ بالتبني من خلال يسوع المسيح. إن كبرياء الإنسان تعوقه عن قبول تدابير الخلاص. لكن استحقاقات البشر لن تسمح بدخول نفس بشرية إلى محضر ﷲ. والاستحقاقات البشرية لن تُدخل إنساناً في حضرة ﷲ. إنّ ما يجعل الإنسان مقبولاً عند ﷲ هو نعمة المسيح الممنوحة لنا بالإيمان باسمه. لا يمكن الاعتماد على الأعمال الحسنة أو الشعور الطيّب كبرهانٍ أنّ الإنسان قد اختاره ﷲ، لأنّ المختارين ينتقيهم ﷲ الآب عن طريق المسيح» (مجلة علامات الأزمنة، ٢ كانون الثاني/يناير، ١٨٩٣).




ملخص الدرس: قد نلنا التبنّي كأبناء وبنات في عائلة ﷲ بالمسيح. وكأبناء لله، صارت لنا كل الحقوق والامتيازات التي تستلزمها مثل هذه العلاقة الأُسرية. وستكون حماقة من جانبنا إذا نحن تعاملنا مع ﷲ على أساس الأحكام والفَرَائِض وحدها. وسيكون ذلك كما لو أن هناك ابناً يريد ترك مكانته وميراثه من أجل أن يصبح عبدا أسيراً.


الدرس التاسع


١٩- ٢٥ آب (أغسطس)


تضرعات بولس الرعوية






السبت بعد الظهر


المراجع الأسبوعية: غلاطية ٤: ١٢-٢٠؛ ١كورنثوس ١١: ١؛ فيلبي ٣: ١٧؛ ١كورنثوس ٩: ١٩-٢٣؛ ٢كورنثوس ٤: ٧-١٢.


آية الحفظ: «أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضًا كَمَا أَنْتُمْ. لَمْ تَظْلِمُونِي شَيْئًا» (غلاطية ٤: ١٢).


كما رأينا حتى الآن، فإن بولس لم يستخدم كلمات مغموسةً باللطافة مع الغلاطييّن. إلا أن لغته القاسية، مع ذلك، قد عكست ببساطة الشعور المُلهَم الذي أحس به فيما يتعلق بالشؤون الروحية للكنيسة التي كان قد أسسها. فبالإضافة إلى الأمور اللاهوتية الحاسمة التي كان يتعامل معها بولس، فإن الرسالة إلى أهل غلاطية كانت بمعنى أوسع تُظهر مدى أهمية المعتقدات الصحيحة. فإذا كان ما نؤمن به ليس بهذا القدر من الأهمية، وإذا كانت صحَّة المعتقدات لا تهم بهذا المقدار، إذن لماذا كان كلّ ذلك الحماس الغيّور من بولس الذي لم يساوم أبدأً في رسائله؟ والحقيقة، بالطبع، هي أن ما نؤمن به وما نعمله مهم للغاية، خصوصاً فيما يتعلق بمجمل مسألة بشارة الإنجيل. ويواصل بولس في غلاطية ٤: ١٢-٢٠ حديثه، وإن كان قد غيَّر نهج أسلوبه، وأصبح أخفَّ حدة بعيداً عن اللاهوتيّات المُعقَّدة والمجادلات الحادة، التي كان يهدف منها إلى تنبيه الغلاطييّن بأخطائهم. فالآن يقدّم بولس لهم تضرعاً شخصيّاً بخلاف المعلّمين المزيَفين الذين لا يهمّهم منفعة ولا خلاص الغلاطييّن. كان بولس مخلصاً محبّاً، مهموماً بحالتهم، راجياً خلاصهم، ويتوسل إليهم بحنان الراعي الصالح الذي يسعى إلى إرجاع خرافه الضالّة إلى حظيرة الإيمان. فهو لم يكن يصحّح أخطاء عقائديّة فحسب وإنّما كان غيّوراً يسعى إلى خدمة وتبشير رعيته الذين أحبهم حباً فائقاً.


*نرجو التعمق في موضوع هذا الدرس استعداداً لمناقشته يوم السبت القادم ٢٦آب (أغسطس).




قلب بولس


اقرأ غلاطية ٤: ١٢-٢٠. ما هي القوة الدافعة في رسالة بولس في هذه الآيات؟


إن الإشارة الأولية إلى الضيق الذي يثقل على قلب بولس بشدة نجدها في تضرعه الشخصي في عد ١٢. ويأتي هذا التضرع مباشرة بعد إصراره بأن يكون أهل غلاطية «كَمَا أَنَا [أي بولس]». وللأسف، فإن مغزى كلمة التضرع أو التوسل غير واضح في بعض الترجمات. والكلمة في اللغة اليونانية هي «deomai». وعلى الرغم من أنه يمكن ترجمتها «أن تحث»، أو أن «تلحَّ»، إلا أن الكلمة باللغة اليونانية يرتبط بها إحساس أقوى بشدة الحاجة إلى الشيء المطلوب (انظر ٢كورنثوس ٥: ٢٠؛ ٨: ٤؛ ١٠: ٢). إن ما يقوله بولس حقاً هو، «أنا أتضرع إليكم!»


إن قلق بولس لم يكن قلقاً بشأن الأفكار اللاهوتية ووجهات النظر العقائدية المغلوطة فحسب، بل كان قلبه مشغولاً بحياة الناس الذين جاءوا إلى المسيح من خلال كرازته. ولقد اعتبر نفسه أكثر من مجرد صديق لهم؛ لقد كان أبوهم الروحي، وكانوا هم أولاده. وأكثر من ذلك، فيشبّه بولس اهتمامه وتعلّقه بهم بالمعاناة التي تكتنف أمّاً تتمخّض عند الولادة. (غلاطية ٤: ١٩). ولقد اعتقد بولس أن «تعبه» كان كافياً لـ «لولادتهم الآمنة» عندما أسس الكنيسة. لكن الآن وبعد أن ضلَّ أهل غلاطية عن الحق، فإن بولس قد بدأ يشعر بكل آلام العمل من جديد حتّى يؤَمِّن سلامتهم الروحيّة.


ما هو الهدف الذي فكّر فيه الرسول بولس للغلاطيين؟ ما هي النتائج التي أراد رؤيتها من كل «تعبه» لأجلهم؟ غلاطية ٤: ١٩


بعد أن وصف بولس مؤمني غلاطية كما لو أنهم قد تكّونوا [تَصوَّروا] أجنّةً في الرحم، يتحدث بولس عنهم الآن كما لو كانوا هم أنفسهم أمهات حاملات على وشك الولادة. والكلمة المترجمة «تَصَوَّرَ» تُستخدم في المجال الطبي للإشارة إلى تطوّر الجنين. ويصف بولس من خلال تشبيهه هذا ما يعنيه أن يكون المرء مسيحياً، على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي ككنيسة. فأن تكون تابعاً للمسيح هو أكثر من مجرد اعتراف بالإيمان؛ إنه يتضمن تحولاً جذرياً إلى شبه المسيح. ولم يكن بولس «يتطلع إلى بعض التعديلات البسيطة في أهل غلاطية لكن إلى تغييرات جوهرية شاملة كاملة لدرجة أنك إذا نظرت إليهم كأنك تنظر إلى شخص المسيح» [ليون موريس، سفر غلاطية (دونرز جروف، إلينوي: دار إنترفرستي للنشر، ١٩٩٦)، صفحة ١٤٢].






التحدي الموضوع أمامنا


اقرأ ١كورنثوس ١١: ١؛ فيلبي ٣: ١٧؛ ٢تسالونيكي ٣: ٧-٩؛ وأعمال ٢٦: ٢٨و ٢٩. ما الذي يقوله بولس في هذه الآيات وينعكس في غلاطية ٤: ١٢؟ كيف لنا أن نفهم وجهة نظر بولس؟


عدة مرات خلال رسائله، نجد بولس يشجِّع المسيحيين على التمثُّل بسلوكه. وفي كل حالة، يقدم بولس نفسه على أنه مثال جدير بالثقة ينبغي للمؤمنين إتباعه. وفي ٢تسالونيكي ٣: ٧-٩، يقدم بولس نفسه على أنه قدوة للمؤمنين في تسالونيكي فيما يختص بوجوب العمل من أجل كسب لقمة العيش حتى لا يكون المرء عبئاً على الآخرين. وفي ١كورنثوس ١١: ١، يدعو بولس أهل كورنثوس إلى التمثُّل به في وضع صالح الآخرين أولاً. لكن يبدو أن ما كان يشغل بولس في غلاطية كان مختلفاً بعض الشيء.


ففي غلاطية ٤: ١٢، لا يطلب بولس من أهل غلاطية التمثل به؛ لكنه يطلب منهم، بدلاً من ذلك، أن «يكونُوا كَمَا» هو — فهو يتحدث هنا عن «الكينونة (جوهر الشخصية)» وليس عن التصرُّف أو السلوك. لماذا؟ لأن المشكلة لدى مؤمني غلاطية لم تكن تتعلق بالسلوك غير الأخلاقي أو بعيش نمط حياة شرير كما في الكنيسة بكورنثوس، بل لقد كانت المعضلة متعلقة بفهمهم المغلوط لجوهر المسيحيّة ذاتها. فقد كان الأمر يتعلق بالكيان لا السلوك. لم يقل بولس تصرفوا مثلي، لكن كونوا مثلي. ويظهر المعنى الدقيق لهذا المصطلح في كلمات بولس عند مناشدته لهيرودس أَغْرِيبَاسُ الثاني في أعمال ٢٦: ٢٩، حيث يكتب بولس، «كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى اللهِ أَنَّهُ بِقَلِيل وَبِكَثِيرٍ، لَيْسَ أَنْتَ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا جَمِيعُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَنِي الْيَوْمَ، يَصِيرُونَ هكَذَا كَمَا أَنَا، مَا خَلاَ هذِهِ الْقُيُودَ»، بكلمات أخرى، فإن بولس يشير إلى اختباره كمسيحي، وهو أساس يستند على المسيح وحده، هو إيمان مِن قِبل بولس يثق فيما فعله المسيح مِن أجله وليس في أعمال الناموس التي قام بها هو (بولس). ولقد كان مؤمنو غلاطية يضعون قيمة لسلوكهم أكبر من القيمة التي كانوا يضعونها على هُويتهم في المسيح.


ورغم أن بولس لا يقول على وجه التحديد كيف يريد لمؤمني غلاطية أن يكونوا مثله، إلا أن سياق الحالة في غلاطية يشير إلى أنه لم يكن يطلب منه أن يكونوا مثله فيما يتعلق بكل جوانب وسمات حياته. ولكن لأن قلقه كان بشأن ديانة مؤمني غلاطية التي تضع تركيزاً كبيراً على الناموس، فمن المؤكد أن بولس كان يفكر في أن يكون مؤمنو غلاطية مثله في المحبة المدهشة والفرح والحرية ويقينية الخلاص التي قد وجدها في يسوع المسيح. ففي ضوء روعة المسيح الفائقة، كان بولس قد تعلَّم أن يحسُب كل شيء خَسَارَةً (فيلبي ٣: ٥-٩) — ولقد تاق بولس لأن يكون لمؤمني غلاطية ذلك الاختبار نفسه.






قد صرت كما أنتم


اقرأ ١كورنثوس ٩: ١٩-٢٣. ما الذي يقوله بولس في هذه الآيات ويمكن أن يساعدك على أن تفهم بشكل أفضل ما كان يعنيه في الجزء الأخير من غلاطية ٤: ١٢؟ (انظر كذلك أعمال ١٧: ١٦-٣٤؛ ١كورنثوس ٨: ٨-١٣؛ غلاطية ٢: ١١-١٤).


قد يظهر مضمون غلاطية ٤: ١٢ محيّراً بعض الشيء. لماذا يجب أن يصير الغلاطيّون مثل بولس، إذا كان هو ذاته قد صار مثلهم؟


كما رأينا في درس البارحة، فلقد أراد بولس لأهل غلاطية أن يكونوا مثله في إيمانه وثقته التامَين في أهليّة المسيح الفائضة للخلاص. وتعليقه عن صيرورته مثلهم كان مذكّراً عن كيف صار أمميّاً مع أنَه يهودي وذلك «بدون الناموس»، حتّى يتسنّى له الوصول إلى الأمم برسالة الإنجيل. فككارز عظيم إلى الأممييّن قد تعلّم بولس كيف يكرز بالإنجيل لكلا اليهود والأممييّن. في الواقع، ووفقاً لـ ١كورنثوس ٩: ١٩-٢٣، فإنه مع أنّ الإنجيل بقي واحداً، فقد تنوّع أسلوب بولس الكرازي ليناسب الجمهور الذي كان يريد الوصول إليه والكرازة له.


«لقد كان بولس رائداً فيما يمكن أن نطلق عليه اليوم اصطلاح ’العمل ضمن السياق‘ أو توصيل البشارة بطريقة تتناسب والسياق الكلي لمَن نخاطبهم مِن الناس» [تيموثي جورج، الموسوعة الأمريكية التفسيرية الجديدة: سفر غلاطية (ناشفيل، تنيسي: برودمان وهولمان للنشر، ١٩٩٤)، صفحة ٣٢١].


وتشير تعليقات بولس نفسه في ١كورنثوس ٩: ٢١ إلى اعتقاده الراسخ بأنه كانت هناك حدود للمدى الذي يمكن للشخص من خلالها «العمل ضمن السياق» أو توصيل بشارة الإنجيل بطريقة تتناسب والسياق العام المحيط بمَن نبشرهم. وهو يذكر، على سبيل المثال، أنه في حين أن الشخص حرٌ في استخدام مختلف الطرق للوصول إلى اليهود والأمم، إلاَّ أن تلك الحرية لا تشمل الحق في عيش نمط حياة فوضوية (غير خاضعة للناموس)، لأن المسيحيين هم تحت «ناموس المسيح».


ورغم أن «العمل ضمن السياق»، أو توصيل البشارة بطريقة تتناسب والظروف، ليس سهلاً دائماً، إلاَّ أنه «طالما نحن لدينا المقدرة على فصل جوهر البشارة عن محيطها الثقافي، فإن ‹العمل ضمن السياق›، أي التبشير برسالة المسيح دون المساومة على محتواها، يُلْزِمْنَا أن نقلّد بولس الرسول» (تيموثي جورج، سفر غلاطية، صفحة ٣٢١و ٣٢١).






حينئذ والآن


لم تكن علاقة بولس بالغلاطيين دائماً بنفس التأزم والفتور كما هي عليه الآن. وفي الحقيقة عندما يتطرّق بولس إلى المرّة الأولى التي كرز فيها بالإنجيل في غلاطية، فإنّه كان يستخدم تعبيرات وهّاجة عن حُسن استقبالهم له، فما الذي جرى؟


ما هو الحدث الذي يبدو أنه قد أدى ببولس إلى أن يقرر الكرازة بالإنجيل في غلاطية؟ غلاطية ٤: ١٣


على ما يبدو أنه لم يكن في نِيّة بولس الأساسية الكرازة بالإنجيل في غلاطية. غير أن نوعاً ما من المرض، مع ذلك، قد أصابه أثناء رحلته مما اضطره، إما إلى البقاء في غلاطية مدة أطول من المدة المتوقعة، أو السفر إلى غلاطية إلى أن تتحسن حالته الصِّحِّيَّة. ويحيط الغموض بطبيعة علة (مرض) بولس المحددة. وقد اقترح البعض أن مرضه مرتبط بالملاريا؛ واقترح آخرون (بناء على إشارة بولس إلى استعداد أهل غلاطية لقلع عيونهم وإعطائها له) أنه من المحتمل أن يكون مرضاً متعلقاً بالعين. وربما كان مرضه مرتبطاً كذلكً بـالـ «شَوْكَة فِي الْجَسَدِ» التي يذكرها في ٢كورنثوس ١٢: ٧-٩.


ومهما كان المرض الذي عانى منه بولس، فهو يخبرنا بأن الأمر كان مزعجاً لدرجة أن هذه العلة قد أصبحت امتحاناً بالنسبة لأهل غلاطية. ففي عالم يُنظر فيه للمرض، في أغلب الأحيان، على أنه إشارة إلى عدم الرضا الإلهي (يوحنا ٩: ١و ٢؛ لوقا ١٣: ١-٤)، فقد كان من الممكن لمرض بولس أن يعطي بسهولة أهل غلاطية عذراً لرفضه ورفض رسالته. لكنهم رحبوا ببولس بكل إخلاص. لماذا؟ لأن قلوبهم كانت قد التهبت بتبشيره بالصليب (غلاطية ٣: ١) وبتبكيت الروح القدس. فأي سبب يمكنهم أن يعطوه الآن لتغيير موقفهم؟


لماذا سمح ﷲ بمعاناة بولس؟ كيف تمكَّن بولس من التبشير إلى الآخرين في حين كان يُصارع مع مشاكله (علَّاته) الخاصة؟ رومية ٨: ٢٨؛ ٢كورنثوس ٤: ٧-١٢؛ ١٢: ٧-١٠.


مهما كان مرض بولس، فمن المؤكد أنه كان مرضاً خطيراً، وكان من الممكن بسهولة أن يعطيه العذر إما ليلقي باللوم على ﷲ بسبب المرض الذي يعاني منه، أو التخلي ببساطة عن الكرازة بالإنجيل. لكن بولس لم يفعل هذا أو ذاك. فبدلاً من أن يجعل الظروف تتحكم فيه، استغل بولس ظروفه كفرصة للاعتماد التام على نعمة ﷲ. «مراراً وتكراراً يستخدم ﷲ شدائد الحياة — المرض، الاضطهاد، الفاقة، بل وحتى الكوارث الطبيعية والمآسي غير القابلة للتوضيح — كفُرَصٍ مناسبة يُظهر ﷲ من خلالها رحمته ونعمته وكوسائل للتقدم بالبشارة» (تيموثي جورج، سفر غلاطية، صفحة ٣٢٣و ٣٢٤).






التكلُّم بالصدق


اقرأ غلاطية ٤: ١٦. ما هي النقطة الحاسمة التي يشدد عليها بولس في هذه الآية؟ بأية طرق يمكن أن تكون أنت قد اختبرت شيئاً مشابهاٌ. (انظر أيضاً يوحنا ٣: ١٩؛ متى ٢٦: ٦٤و ٦٥؛ إرميا ٣٦: ١٧-٢٣).


إن التعبير «أَصْدُقُ لَكُمْ» غالباً ما تكون له معان سلبية متضمنة، خصوصاً في عصرنا وزماننا، حيث يمكن أن يُنظر إلى قول الصدق على قسوة شديدة، وبأنه يجب أن يتسم كلامنا بالدبلوماسية حتى لا نتسبب في إحداث مشاكل مع الآخرين. ولولا تعليقات بولس في غلاطية ٤: ١٢-٢٠ وبضعة تعليقات أخرى متناثرة في هذه الرسالة (انظر غلاطية ٦: ٩ و١٠)، لاستنتج المرء، بشكل خاطئ، أن اهتمام بولس بحق الإنجيل قد فاق أي تعبير للمحبة. مع ذلك، وكما رأينا، فرغم أن بولس كان مهتماً بأن يعرف مؤمنو غلاطية «حَقِّ الإِنْجِيلِ» (انظر غلاطية ٢: ٥ و١٤)، إلا أن هذا الاهتمام كان بدافع محبته لهم. فمَن مِنا لم يختبر بصورة شخصية مدى ما يمكن أن يكون عليه الأمر من ألم عندما يكون علينا تأنيب شخص ما، أو قول الحقيقة له بعبارات صريحة واضحة في حين أنه — لسبب أو لآخر — قد لا يرغب في سماع هذه الحقيقة؟ ونحن نفعل ذلك لأننا نهتم بالشخص، وليس لأننا نريد أذيَّته، رغم أن التأثير الفوري لكلماتنا قد يكون مؤلماً أحياناً، وقد يتسبب حتى في جلب غضب الشخص علينا واستيائه مِنَّا. لكننا نقول الصدق على أي حال لأننا نعرف أن الشخص بحاجة إلى سماعه، بغض النظر عن مدى عدم رغبة الشخص في سماع الحقيقة.


في غلاطية ٤: ١٧-٢٠، ما الذي يقوله بولس عن أولئك الذين يعارضونه؟ ما هو أيضاً الشيء الذي اعترض عليه بولس بالإضافة إلى تعاليمهم اللاهوتية المغلوطة؟


وعلى نقيض ما اتسمت به بشارة بولس من صدق ووضوح، الأمر الذي كان من المحتمل أن يتسبب في إثارة وإشعال غضب أهل غلاطية نحوه، فإننا نجد معارضيه يتوددون إلى أهل غلاطية ويتملقونهم ليس بدافع محبتهم لأهل غلاطية وإنما لدوافع أنانية. ولا يتضح بشكل محدد ما يعنيه بولس بقوله لأهل غلاطية أن معارضيه «يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ» (غلاطية ٤: ١٧)، وقد يُشير ذلك ربما إلى محاولة صدِّهم عن امتيازات البشارة حتى يرضخوا لفريضة الختان.






لمزيد من الدرس: «أما في كنائس غلاطية فقد احتل الضلال العلني السافر مكان رسالة الإنجيل. فالمسيح الذي هو الأساس الحقيقي للإيمان نُبذ في الواقع واستُبدل بالطقوس اليهودية العقيمة الميتة. وقد رأى الرسول أنه لكي ينجو المؤمنون في غلاطية من المؤثرات الخطرة المحدقة بهم كان لا بد له من أن يتخذ أقوى الإجراءات الحاسمة ويقدم إليهم أقسى الإنذارات.


«ثمة درس هام ينبغي لكل خادم للمسيح أن يتعلمه ألا وهو أن يوفق بين خدماته وبين حالة الذين يقصد أن يفيدهم. فالرقة والصبر والتصميم والثبات كلها لازمة ولكن هذه يجب التدرب عليها بالتمييز والحصافة اللائقة. فالتصرف الحكيم مع الناس ذوي العقليات المختلفة وفي ظروف وأحوال مختلفة هو عمل يتطلب حكمة وتمييزاً مستنيرين ومقدسين بروح ﷲ.


«وقد توسل بولس إلى الذين عرفوا في حياتهم قبلاً قوة ﷲ، أن يعودوا إلى محبتهم الأولى لحق الإنجيل. فبحجج لا تقبل جدلاً وضع أمامهم امتياز كونهم قد صاروا رجالاً ونساء أحراراً في المسيح الذي عن طريق نعمته المكفرة يتسربل كل من يخضعون له خضوعاً تاما بثوب بره. لقد اتخذ المركز الذي مؤداه أن كل نفس تريد الخلاص ينبغي أن يكون لها اختبار حقيقي شخصي في أمور ﷲ.


«ولم تكن أقوال الرسول وتوسلاته الحارة بلا ثمر. فلقد عمل الروح بقوة عظيمة، وكثيرون ممن ضلت أقدامهم في طرق غريبة، عادوا إلى إيمانهم الأول بالإنجيل. ومنذ ذلك الحين ظلوا ثابتين في الحرية التي قد حررهم المسيح بها» (روح النبوة، أعمال الرسل، صفحة ٣٢٩و ٣٣١و ٣٣٢).




ملخص الدرس: بعدما قدّم بولس الرسول العديد من الحجج اللاهوتية الدقيقة المعقدة، يلجأ بولس الآن إلى توسّلات وجدانية شخصيّة إلى الغلاطيين، إنّه الآن يتضرع إليهم أن يصغوا إلى نصيحته مذكّرا إياهم بالعلاقة الإيجابية التي كانت له معهم قبلاً، وبالمحبّة الحقيقية وللاهتمام الذي يكنّه لهم كأبيهم الروحي.


الدرس العاشر


٢٦- آب (أغسطس)- ١ أيلول (سبتمبر)


العهدان






السبت بعد الظهر


المراجع الأسبوعية: غلاطية ٤: ٢١-٣١؛ تكوين ١: ٢٨؛ ٢: ٢و ٣؛ ٣: ١٥؛ ١٥: ١-٦؛ خروج ٦: ٢-٨؛ ١٩: ٣-٦.


آية الحفظ: «وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ الْعُلْيَا، الَّتِي هِيَ أُمُّنَا جَمِيعًا، فَهِيَ حُرَّةٌ» (غلاطية ٤: ٢٦).


إنَّ المسيحيين الذين يرفضون سلطة العهد القديم غالباً ما يرون أن إعطاء الشريعة على جبل سيناء يتضارب مع بشارة الإنجيل. وهم يستنتجون أن العهد الذي أُعطي في سيناء يمثّل فترة زمنية، نظاماً دينياً، من تاريخ البشر عندما كان الخلاص مؤسساً على طاعة الناموس. ويزعم هؤلاء أنه نظراً لإخفاق الناس في العيش وفق متطلبات الناموس، فإن ﷲ أدخل عهداً جديداً، عهد النعمة بواسطة استحقاقات يسوع المسيح. هذا، إذن، هو مفهومهم للعهدين: العهد القديم المؤسس على الناموس، والعهد الجديد المؤسس على النعمة.


بغض النظر عن شيوع وانتشار وجهة النظر هذه، إلا أنها وجهة نظر خاطئة. فالخلاص لم يكن أبداً بواسطة طاعة الناموس؛ فالديانة اليهودية، وفقاً للكتاب المقدس، كانت منذ البداية ديانة نعمة دائماً. ولم يكن التزمت أو التقيُّد الحرفي بالناموس الذي يواجهه بولس سوى انحراف في غلاطية، ليس عن المسيحية ولكن عن العهد القديم نفسه. فالعهدان ليسا أمرين متعلقين بالزمن؛ لكنهما بدلاً من ذلك انعكاس للمواقف البشرية. إنهما يمثلان طريقتان مختلفتان لمحاولة الاتصال بالله، طريقتان يعود أصلهما لزمن قايين وهابيل. ويمثل العهد القديم أولئك الذين، كقايين، يعتمدون خطأً على طاعتهم الخاصة كوسيلة لإرضاء ﷲ؛ وفي المقابل، فإن العهد الجديد يمثِّل اختبار أولئك الذين، كهابيل، يعتمدون كلياً على نعمة ﷲ في أن يفعل كل ما وعد به.


*نرجو التعمق في موضوع هذا الدرس استعداداً لمناقشته يوم السبت القادم الموافق ٢ أيلول (سبتمبر).




أساسيات العهد


يعتبر الكثيرون من الناس أن تفسير بولس لتاريخ إسرائيل في غلاطية ٤: ٢١-٣١ هو أصعب فقرة في رسالته. هذا لأنّ الأمر هو عبارة عن حوار (أو جدل) على درجة كبيرة من التعقيد الذي يتطلّب معرفة مستفيضةً لشخصيّات وأحداث العهد القديم. والخطوة الأولى نحو فهم هذه الفقرة هو أن يكون لدينا الفهم الأساسي لأحد مفاهيم العهد القديم، والذي يُعَد مفهوماً مركزياً وأساسياً بالنسبة لجدال بولس، وهو مفهوم العهد.


والكلمة العبرية المترجمة «عهد» هي «berit». وتظهر هذه الكلمة ما يقرب من ٣٠٠ مرة في العهد القديم، وهي تشير إلى ميثاق مُلْزِم، اتفاقية، أو معاهدة. ولآلاف السنين، لعبت العهود دوراً أساسياً في تحديد العلاقات بين الناس وبين الأمم في جميع أنحاء الشرق الأدنى القديم. وفي كثير من الأحيان، كانت العهود والمواثيق تتضمن ذبح حيوانات كجزء من عملية صُنْعِ العهد (والكلمة الحرفية لـ «صُنْعِ» هي «قَطْعِ» العهد). وكان ذبح الحيوانات يرمز إلى ما سيحدث للطرف الذي يفشل في الحفاظ على وعود العهد والتزاماته.


«من آدم إلى المسيح، تعامل ﷲ مع البشر بواسطة سلسلة من وعود وعهود كانت تتركّز حول الفادي الآتي والتي وصلت إلى العهد الذي قُطع مع داود (تكوين ١٢: ٢و ٣؛ ٢صموئيل ٧: ١٢-١٧؛ إشعياء ١١). وفيما يتعلق بشعب إسرائيل في السبي البابلي، فقد وعد ﷲ بـ «عهد جديد» أكثر فعالية، (إرميا ٣١: ٣١-٣٤) وهو المرتبط بمجيء المسيا الذي من نسل داود (حزقيال ٣٦: ٢٦-٢٨؛ ٣٧: ٢٢-٢٨)» [هانز ك. لاونديل، فادينا الخالق (بيرن سبرنجز، ميشغان: دار جامعة أندروز للنشر، ٢٠٠٥)، صفحة ٤].


ماذا كان أساس عهد ﷲ الأصلي مع آدم في جنة عدن قبل الخطية؟ تكوين ١: ٢٨؛ ٢: ٢و ٣و ١٥-١٧.


في حين كان الزواج والعمل البدني والسبت جزءاً من تدابير ﷲ الأصلية لعهد الخليقة، إلاَّ أن النقطة المركزية كانت نهي ﷲ (لآدم وحواء) عن أكل الثمرة المحرمة. وكانت الطبيعة الأساسية للعهد هي «أطِع وعِش!» وفي ظل طبيعة بشرية خُلِقت في تناغم مع ﷲ، فإن ﷲ لم يطلب المستحيل. فلقد كانت الطاعة هي النزعة الطبيعية للإنسان؛ ومع ذلك، فقد أختار كل من آدم وحواء أن يقوما بعمل ما لم يكن طبيعياً. وبهذا العمل، فإن آدم وحواء لم يمزقا عهد الخليقة فحسب، لكنهما قد جعلا الالتزام بـبنود العهد مستحيلة بالنسبة للبشر المفسَدين الآن بالخطية. وكان على ﷲ إيجاد وسيلة لاستعادة العلاقة التي ضيَّعها كل من آدم وحواء. ولقد فعل ﷲ ذلك من خلال البدء فوراً بإصدار عهد نعمة أساسه الوعد بمُخَلِّص (تكوين ٣: ١٥).






العهد الإبراهيمي


ماهي الوعود التي قطعها ﷲ في عهده مع أَبْرَام في تكوين ١٢: ١- ٥؟ ماذا كان ردّ فعل أَبْرَام؟


تشكِّل مواعيد ﷲ الأولى لأَبْرَام مجموعة من أقوى الفقرات في العهد القديم. فإن كل هذه الآيات المتعلقة بالوعد تدور حول نعمة ﷲ. لقد كان ﷲ، وليس أَبْرَام، هو الذي يقدم الوعود. ولم يقم أَبْرَام بعمل أي شيء ليكسب أو يستحق إحسان ﷲ. وليس هناك أي إشارة كذلك إلى أن ﷲ وأَبْرَام قد عملا بطريقة ما معاً للوصول إلى هذه الاتفاقية. فالله هو الذي أعطى الوعود. وأما أَبْرَام، في المقابل، فقد دُعي لأن يكون لديه إيمان في الثقة بوعود ﷲ. ولم يكن الإيمان المطلوب هو نوعاً ضعيفاً من «الإيمان»، إنما كان إيماناً قوياً متجلياً من خلال تَرْكِ أَبْرَام لعائلته الكبيرة (وهو في الخامسة والسبعين من العمر) والتوجُّه إلى الأرض التي وعده ﷲ بها.


«ومن خلال ‹البركات› التي نطق ﷲ بها على إبراهيم وعلى كل البشر من خلاله، جدد الخالق قصده التكفيري (أي قصد فداء البشرية). لقد بارك آدم وحواء في الجنة (تكوين ١: ٢٨؛ ٥: ٢) وبعد ذلك ‹بارك ﷲ نوحاً وأبناءه› بعد الطوفان (٩: ١). وبهذه الطريقة وضّح ﷲ وعده السابق بمُخلِّص يفتدي البشرية ويطيح بالشر، ويستعيد جنة عدن (غلاطية ٣: ١٥). ولقد أكد ﷲ وعده بأن يبارك ’كل الناس‘ في عالمه الممتد» (هانز ك. لارونديل، فادينا الخالق، صفحة ٢٢و ٢٣).


بعد عشر سنوات من انتظار مولد الابن الموعود به، ما هي الأسئلة التي كانت لدى أَبْرَام حول وعود ﷲ؟ تكوين ١٥: ١-٦.


يسهل علينا، في أغلب الأحيان، تعظيم أَبْرَام كرجل إيمان لم تكن لديه أية تساؤلات أو شكوك. إلاَّ أن الكتاب المقدس، مع ذلك، يرسم لنا صورة مختلفة عنه. لقد آمن أَبْرَام، ومع ذلك فقد كانت له تساؤلاته على طول الطريق. وكان إيمانه إيماناً متنامياً. ومثل الأب في مرقس ٩: ٢٤، فإن أَبْرَام قد قال لله في تكوين ١٥: ٨، «بِمَاذَا أَعْلَمُ أَنِّي أَرِثُهَا؟» ولقد طمأن ﷲ أَبْرَام بلطف مؤكداً له حقيقة الوعد الذي وعده إياه وذلك من خلال دخول ﷲ في ميثاق عهد مع أَبْرَام (تكوين ١٥: ٧- ١٨). وما يجعل هذه الفقرة مدهشة جداً هو ليس حقيقة دخول ﷲ في عهد مع إبراهيم وإنما مدى ما كان عليه ﷲ من استعداد للتنازل [للتَعَطُّفِ] من أجل القيام بذلك. وعلى خلاف الحكَّام الآخرين في الشرق الأدنى قديماً، والذين كانوا يرفضون فكرة قطع وعود ملْزِمة مع خدّامهم، فإن ﷲ لم يعطِ كلمته فحسب، ولكن ﷲ وضع نفسه ذبيحة على المحرقة من أجل تحقيق هذا الوعد، ولقد عبَّر ﷲ عن ذلك بصورة رمزية من خلال اجتيازه بين قطع لحم الحيوانات المشقوقة (المذبوحة). وبطبيعة الحال، فقد أعطى المسيح في نهاية المطاف حياته على الجلجثة لجعل وعده حقيقة واقعة.






إبراهيم، سارة، وهاجر


لماذا كان لبولس نظرة متدنية فيما يتعلق بالحدث المرتبط بهاجر؟ غلاطية ٤: ٢١-٣١، تكوين ١٦. ما هي الفكرة الهامّة عن الخلاص التي يشدد عليها بولس من خلال إشارته إلى هذه القصّة في العهد القديم؟


كانت هاجر جارية مصرية تعيش في منزل أَبْرَام. ترتبط تفاصيل قصة هاجر في قصة التكوين ارتباطاً مباشراً بفشل أَبْرَام في تصديق وعد ﷲ. فمن المحتمل أن هاجر، كجَارِيَة مصرية، كانت قد أصبحت مُلكَاً لأَبْرَام كإحدى الهدايا العديدة التي أعطاها فرعون له بدلاً من سَارَاي؛ وهو حدث مرتبط بأول تصرُّف مِن قِبل أَبْرَام أظهر فيه عدم تصديقه لوعد ﷲ (تكوين ١٢: ١١-١٦).


وبعد انتظار دام عشر سنوات لميلاد ابن الموعد، لم ينجب أَبْرَام وسَارَاي أطفالاً. ولقد استنتجت ساراي أن ﷲ كان بحاجة إلى مساعدتهما، لذلك أعطت سَارَاي هاجر لأَبْرَام كمُحظية (سُرِّيَّة). وعلى الرغم من غرابة هذا الأمر بالنسبة لنا اليوم، إلا أن خطة سَارَاي كانت بارعة جداً. فطبقاً للعادات القديمة، كان يمكن قانوناً للجَارِيَة الأنثى أن تحل محل سيدتها العاقر وتعمل كأم بديلة. وهكذا كان يمكن لسَارَاي أن تعتبر أي طفل يولد من زوجها وهاجر ابناً لها. وفي حين أن الخطة قد نتج عنها ابن بالفعل، إلا أنه لم يكن الابن الموعود به من ﷲ.


لدينا في هذه القصة مثالاً قوياً حول كيف يمكن حتى لرجل عظيم من رجال ﷲ أن ينزل إيمانه بالله درجات. وفي تكوين ١٧: ١٨و ١٩، يتوسل إبراهيم إلى ﷲ كي يقبل إسماعيل كوريث له؛ ولقد رفض ﷲ، بطبيعة الحال، ذلك المقترح. إن عنصر «المعجزة» الوحيد في ميلاد إسماعيل كان استعداد سارة لمشاركة زوجها مع امرأة أخرى! ولم يكن هناك شيء خارج عن المعتاد في ميلاد طفل من هذه المرأة، فهو طفل مولود «حسب الجسد». ولو كان إبراهيم قد وثق فيما وعده ﷲ بدلاً من السماح للظروف بأن تقهر هذه الثقة، فما كان ليحدث أي شيء من كل هذا، ولكان يمكن تفادي الكثير من الأسى والألم.


على نقيض ولادة إسماعيل، انظر الظروف التي أحاطت بولادة إِسْحَاقَ. تكوين ١٧: ١٥-١٩؛ ١٨: ١٠-١٣؛ عبرانيين ١١: ١١و ١٢. لماذا تتطلب هذه الظروف الكثير من الإيمان من جانب إبراهيم وسارة؟






هاجر وجبل سيناء (غلاطية ٤: ٢١-٣١)


ما هو نوع علاقة العهد التي أراد ﷲ أن يؤسسها مع شعبه في سيناء؟ ما هي أوجه الشبه بين هذه العهود وبين الوعد مع إبراهيم؟ خروج ٦: ٢-٨، ١٩: ٣-٦، تثنية ٣٢: ١٠-١٢.


أراد ﷲ أن يؤسّس عهد علاقة مع بني إسرائيل في سيناء كما فعل مع إبراهيم. في الواقع، هناك تشابه بين كلمات ﷲ لإبراهيم في تكوين ١٢: ١-٣ وبين كلماته لموسى في خروج ١٩. وفي كلتا الحالتين، أكد ﷲ على ما سيفعله من أجل شعبه. وهو لم يطلب من الإسرائيليين أن يَعِدُوا بعمل أي شيء لكسب بركاته؛ بدلاً من ذلك، كان عليهم إظهار الطاعة كاستجابة لتلك النِّعم والبركات. والكلمة العبرية المترجمة «أطعتم (في بعض ترجمات الكتاب المقدس)» وَ»حَفِظْتُمْ» في خروج ١٩: ٥ تعني حرفياً «سمعتم». وكلمات ﷲ لا تعني التبرير بالأعمال. على العكس من ذلك، لقد أراد ﷲ لشعب إسرائيل أن يكون لهم نفس الإيمان الذي اتسمت به استجابة إبراهيم لوعود ﷲ (وقد فعل إبراهيم ذلك في معظم الوقت على الأقل!).


لو كان العهد الذي قطعه ﷲ مع إسرائيل على جبل سيناء شبيهاً بالعهد المُعطى لإبراهيم، فلماذا يربط بولس الرسول جبل سيناء باختبار هاجر السلبي؟ خروج ١٩: ٧-٢٥؛ عبرانيين ٨: ٦و ٧.


لقد كان الغرض من العهد في سيناء هو الإشارة إلى إثم البشرية وإلى العلاج الذي تقدمه نعمة ﷲ الوفيرة والتي أُشير إليها في خدمات المسكن. ولم تكن المشكلة في عهد سيناء متعلقة بالجزء الخاص بالله إنما كانت المشكلة بالأحرى تتعلق بوعود الشعب الكاذبة (عبرانيين ٨: ٦). فإنه بدلاً من أن يستجيب شعب إسرائيل لمواعيد ﷲ بتواضع وإيمان، استجابوا بثقة في النفس: « ‹كُلُّ مَا تَكَلّ’مَ بِهِ الرَّبُّ نَفْعَلُ› » (خروج ١٩: ٨). وبعد العيش كعبيد في مصر لمدة تزيد عن الأربعمائة عام، فإنه لم يكن لدى شعب إسرائيل فهم حقيقي أو استيعاب لعظمة وجلال ﷲ ولا اعتراف بحالتهم الخاطئة. وبنفس الطريقة التي حاول بها كل من إبراهيم وسارة مساعدة ﷲ على إتمام وعوده، فقد سعى الإسرائيليون إلى تحويل عهد ﷲ للنعمة إلى عهد أعمال. وترمز هاجر إلى الشعب في سيناء، والسبب في هذا هو أن كلا الحدثين يكشفان عن مسعى البشر للحصول على الخلاص بالأعمال.


إن بولس لا يدَّعي أن الناموس الذي أُعطي في سيناء كان سيئا أو أُبطل. إنما كان بولس قلقاً بشأن إساءة الفهم المتزمتة للناموس من قِبل مؤني غلاطية. «فبدلاً من أن يعمل الناموس على إقناعهم بالاستحالة المطلقة لإرضاء ﷲ بواسطة حفظ الناموس، فقد عزز الناموس لديهم تصميماً متحصناً للاعتماد على المصادر الشخصية لإرضاء ﷲ. وهكذا لم يعمل الناموس على تحقيق غرض النعمة في قيادة اليهود المتزمتين إلى المسيح. وبدلاً من ذلك، حجبهم الناموس عن المسيح» [أُوُ. بالمير روبرتسون، مسيح العهود (فيلبسبرج، نيوجيرسي: شركة بريسبيتيرين آند ريفورمد للنشر، ١٩٨٠)، صفحة ١٨١].




إسماعيل وإِسْحَاقَ اليوم


لقد كان المقصود من الصورة المختصرة التي عرضها بولس لتاريخ إسرائيل هو مواجهة الحجج التي جاء بها معارضوه الذين زعموا أنهم كانوا نسل إبراهيم الحقيقيين وبأن أورشليم — مركز المسيحية اليهودية والناموس — كانت هي أمهم الرؤوم، وأنَّ الأمميّين الذين هاجموهم كانوا غير شرعييّن، فلو كانوا يريدون أن يكونوا تابعين مخلصين للمسيح، يجب عليهم أن يصيروا أوّلاً أبناءً لإبراهيم برضوخهم إلى الناموس بالختان.


ويقول بولس أن الحقيقة هي العكس. فإن هؤلاء اليهود المتزمتين هم ليسوا أبناء إبراهيم لكنهم أبناء غير شرعيين، مثل إسماعيل. فإنهم من خلال وضع ثقتهم في الختان، كانوا يتكلون على «الجسد» تماماً كما فعلت سارة مع هاجر وكما فعل الإسرائيليون مع شريعة ﷲ في سيناء. أما المؤمنون من الأمم، مع ذلك، فقد كانوا أبناء إبراهيم ليس بالنسب الطبيعي وإنما، مثل إِسْحَاقَ، بقوة ﷲ الخارقة. «وهم مثل إِسْحَاقَ كانوا إتماماً للوعد الذي أُعطي لإبراهيم...؛ ومثل إِسْحَاقَ، كان مولدهم في الحرية هو تأثير النعمة الإلهية؛ وهم، كإِسْحَاقَ، ينتمون إلى العهد الإلهي» [جيمس د. ج. دِن، الرسالة إلى أهل غلاطية (لندن: هندريكسون للنشر، ١٩٩٣)، صفحة ٢٥٦].


ماذا سيواجه أولاد إبراهيم الحقيقيون في هذا العالم؟ غلاطية ٤: ٢٨-٣١؛ تكوين ٢١: ٨-١٢.


كون إِسْحَاق الابن الموعود به، فقد جلب هذا عليه ليس بركاتٍ فقط بل معارضةً واضطهاداً أيضاً. وعند إشارة بولس إلى الاضطهاد، فهو كان يفكر في الحفل الذي حدث قديماً الوارد ذِكره في تكوين ٢١: ٨-١٠، حيث كان يتم إكرام إِسْحَاقَ وقد بدا أن إسماعيل كان يسخر من إِسْحَاقَ. والكلمة العبرية في تكوين ٢١: ٩ تعني حرفياً أن «تضحك»، لكن رد فعل سارة يوحي بأن إسماعيل كان يسخر أو يهزأ من إِسْحَاقَ. وفي حين أن سلوك إسماعيل لا يبدو ذات أهمية كبيرة بالنسبة لنا اليوم، إلاَّ أنه كشف عن العداوة المتعمقة التي كانت متضمنة وحاضرة في موقف كانت فيه حقوق البكورية على حافة الخطر ورهن التغيير والانتقال [من إسماعيل إلى إِسْحَاقَ]. ولقد حاول العديد من الحكام في العصور القديمة تأمين مناصبهم من خلال الإطاحة بمنافسيهم المحتلمين، بما في ذلك الأشقاء (قضاة ٩: ١-٦). وبالرغم من أن إِسْحَاقَ قد لاقى معارضة، إلا أنه تمتع بكل امتيازات المحبة والحماية والتفضيل المصاحبة لكونه وريث والده.


ويجب علينا، كأبناء روحيين لإِسْحَاقَ، ألا نفاجأ عندما نعاني المشقة والمعارضة، حتى من داخل العائلة الكنسيّة نفسها.






لمزيد من الدرس: اقرأ لروح النبوة الفصل الذي بعنوان «الشريعة والعهدان»، صفحة ٣١٧-٣٢٧، في كتاب الآباء والأنبياء.


«ولكن إذا كان العهد الإبراهيمي قد اشتمل على الفداء فلماذا أُبرم عهدٌ آخر في سيناء؟ إن الشعب وهُم في العبودية كانوا إلى حد كبير قد أضاعوا معرفة ﷲ ومبادئ العهد مع إبراهيم. ...


«لقد أتى ﷲ بهم إلى سيناء وأظهر لهم مجده وأعطاهم شريعته ووعدهم ببركات عظيمة على شرط الطاعة، قائلاً لهم: ‘إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي... تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة’ (خروج ١٩: ٥و ٦). ولم يتحقق الشعب من شر قلوبهم أو أنهم بدون المسيح كان من المستحيل عليهم أن يطيعوا شريعة ﷲ، إذ بسرعة أدخلوا أنفسهم في عهد مع ﷲ. ... ولكن ما إن مرت أسابيع قليلة حتى نقضوا عهدهم مع ﷲ وسجدوا لتمثال مسبوك. لم يكونوا يرجون الظفر برضى ﷲ عن طريق العهد الذي تعدوه. والآن، وقد اكتشفوا شرهم وحاجتهم إلى الغفران، أحسوا أخيراً بحاجتهم إلى مخلص معلن في عهد ﷲ مع إبراهيم ومرموز إليه في تقدمات الذبائح. والآن، فبالإيمان والمحبة كانوا مرتبطين بالله كمخلصهم من عبودية الخطية، وأصبحوا مستعدين لتقدير بركات العهد الجديد» (روح النبوة، الآباء والأنبياء، صفحة ٣٢٥).




ملخص الدرس: إن قصص كل من هاجر وإسماعيل وشعب إسرائيل في سيناء توضح حماقة محاولة الاعتماد على جهودنا الذاتية لإنجاز ما وعد به الرب. ويُشار إلى مثل هذا الأسلوب من البرّ الذاتي بـ «العهد القديم». أما العهد الجديد فهو عهد النعمة الأبدي الذي تأسس لأول مرة مع آدم وحواء بعد الخطية، وتجدد مع إبراهيم، وأُنجز أخيراً في المسيح.


الدرس الحادي عشر


٢- ٨ أيلول (سبتمبر)


الحُرِّيَة في المسيح






السبت بعد الظهر


المراجع الأسبوعية: غلاطية ٥: ١-١٥؛ ١كورنثوس ٦: ٢٠؛ رومية ٨: ١؛ عبرانيين ٢: ١٤و ١٥؛ رومية ٨: ٤؛ ١٣: ٨.


آية الحفظ: «فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ، بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا» (غلاطية ٥: ١٣).


في غلاطية ٢: ٤، يشير بولس بإيجاز إلى أهمية حماية الـ «حرية» التي لنا في المسيح. لكن ما الذي يعنيه بولس عندما يتحدث عن «الحرية»، والتي كثيراً ما يتحدث عنها؟ ما الذي تشمله هذه الحرية؟ وما هو مدى هذه الحرية؟ وهل لهذه الحرية أي حدود؟ وما هي العلاقة التي بين الحرية في المسيح وبين الناموس؟


يتعامل بولس مع هذه الأسئلة من خلال تحذيره لأهل غلاطية من خطرين. الخطر الأول هو التزمت في حفظ الناموس. فلقد كان معارضو بولس في غلاطية منصرفين كثيراً إلى محاولة كسب رضا ﷲ من خلال سلوكهم لدرجة أنهم فقدوا القدرة على إدراك الطبيعة المحرِّرة لعمل المسيح وللخلاص الذي صار من نصيبهم في المسيح من خلال الإيمان. والخطر الثاني هو الميل إلى إساءة استخدام الحرية، التي اشتراها المسيح لأجلنا. ويمكننا إساءة استخدام الحرية بالانغماس في الفسق والفجور. إن الذين يروق لهم هذا الرأي، يفترضون مُخطئين، بأنّ الحريّة هي متناقضة مع الناموس.


إن كلاً من التزمت (التقيُّد الحرفي بحفظ الناموس) والفجور مُعَاديان للحرية، لأن كلاهما، على قدم المساواة، يُبقيان أتباعهما في شكل من أشكال العبودية. وتَوسُّل بولس لأهل غلاطية، مع ذلك، هو أن يقفوا ثابتين وراسخين في الحرية الحقيقية التي هي من حقّهم الشرعي في المسيح.


*نرجو التعمق في موضوع هذا الدرس استعداداً لمناقشته يوم السبت القادم الموافق ٩ أيلول (سبتمبر).




قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ


«فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا، وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ» (غلاطية ٥: ١).


مثلما يأمر قائد الجيوش الصارم قواته المتأرجحة بالصمود، هكذا يطلب بولس من مؤمني غلاطية عدم التخلي عن حريتهم في المسيح. إنّ قوّة تركيز بولس في نبرته القياديّة، تجعل كلماته تكاد تقفز من الرسالة المكتوبة إلى العمل الفعلي. وفي الحقيقة، يظهر أنّ ذلك هو ما كان بولس يقصده بالفعل. ومع أنّ هذه الآية ترتبط من حيث السياق بالآيات التي تسبقها والآيات التي تليها، إلا أن إعوازها وافتقارها إلى الترابط النحوي في اللغة اليونانية يقترح أن بولس أرادها أن تكون شعاراً بارزاً يُحتذى. إن الحرية في المسيح تلخِّص محاجّة بولس بأكملها، ولقد كان مؤمنو غلاطية على وشك التخلي عن هذه الحرية وإضاعتها.


اقرأ غلاطية ١: ٣و ٤؛ ٢: ١٦؛ ٣: ١٣. ما هي بعض الاستعارات والكنايات المستخدمة في هذه الآيات، وكيف تساعدنا على أن نفهم ما قام به المسيح من أجلنا؟


توحي كلمات بولس عن «الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا» (غلاطية ٥: ١) بأنه ربما كان يفكر في استعارة أخرى أثناء حديثه. إنّ صيغة هذه العبارة لتشبه الديباجة المستعملة لوصف العتق المقدّس لتحرير العبيد. ولأن العبيد لم يكن لديهم أية حقوق قانونية، لذلك كان من المفترض أن قوة إلهية هي التي بإمكانها شراء حريتهم. وفي المقابل، فإن العبد، على الرغم من كونه قد صار حراً حقاً، يظل بصفة قانونية منتمياً ‹للإله› الذي حرره. وبطبيعة الحال، لم تكن هذه العملية على أرض الواقع سوى خيال؛ ذلك لأن العبد هو الذي كان يدفع المال إلى خزينة المعبد من أجل الحصول على حريته. انظر، على سبيل المثال، الصيغة المستخدمة في واحد من بين ما يقرب من ألف نقش عُثر عليها في معبد «دَلْفي» المخصص لـلإله الإغريقي أبولو بيثيادي ويعود تاريخها إلى ما بين ٢٠١ قبل الميلاد و١٠٠ ميلادية. «من أجل الحرية، اشترى أبولو [الإله الإغريقي] جارية اسمها نيقية مِن شخص يُدعى سُوسيبَس الأمفيسي [Sosibus of Amphissa]... ولقد كُرِّسَت هذه الجارية «نيقية» لأبولو [الإله] لأنه هو الذي منحها الحرية» [بن ويثرينجتون الثالث، النعمة في سفر غلاطية (جراند رابيدز، ميشيغان: شركة ويليام ب.ردمنس للنشر، ١٩٩٨)، صفحة ٣٤٠].


تتشابه هذه الصيغة مع مصطلحات بولس الأساسية لكن مع وجود اختلاف جوهري. إذ ليس هناك خيال في الاستعارة أو الكناية التي استخدمها بولس (١كورنثوس ٦: ٢٠و ٧: ٢٣). فلقد كان الثمن المدفوع لتحريرنا باهظاً. ولقد كنا عاجزين عن تخليص أنفسنا، لكن المسيح تقدم وفعل من أجلنا ما لا يمكننا نحن عمله لأجل أنفسنا. ولقد دفع المسيح عقوبة خطايانا، وهكذا حررنا من الإدانة.






طبيعة الحرية المسيحية


إن وصية بولس لنا بالوقوف ثابتيين في الحرية لم تأتِ من فراغ. فهي مسبوقة بتصريح عن حقيقة هامة، ألا وهي «قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ». لماذا ينبغي للمسيحيين الثبات في حريتهم؟ لأن المسيح قد حررهم بالفعل. بمعنى آخر، إن حريتنا هي نتيجة ما قد فعله المسيح من أجلنا بالفعل.


إنّ هذا النموذج المكوّن من عبارة تتبعها عبارة أخرى تحث على الصمود هي أمر شائع في رسائل بولس. (١كورنثوس ٦: ٢٠؛ ١٠: ١٣و ١٤؛ كولوسي ٢: ٦). على سبيل المثال، يقدم بولس عدة تصريحات دلالية وإرشادية في رومية ٦ حول الحقائق المتعلقة بحالتنا في المسيح، مثل «عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ» (رومية ٦: ٦). وعلى أساس هذه الحقيقة، أمكن لبولس حينها أن يعطي هذه النصيحة الهامة، «إِذًا لاَ تَمْلِكَنَّ الْخَطِيَّةُ فِي جَسَدِكُمُ الْمَائِتِ لِكَيْ تُطِيعُوهَا فِي شَهَوَاتِهِ» (رومية ٦: ١٢). هذه هي طريقة بولس في قول، «كونوا ما أنتم عليه بالفعل في المسيح». فالحياة المثالية للإنجيل لا تفترض محاولة فعل شيء ما كي نبرهن بأننا أولاد ﷲ بل العكس هو الصحيح، فإنه لكوننا أولاد ﷲ فنحن نفعل ما ينبغي أن نفعل.


ما هي الأمور التي حررنا المسيح منها؟ رومية ٦: ١٤و ١٨؛ ٨: ١؛ غلاطية ٤: ٣و ٨؛ ٥: ١؛ عبرانيين ٢: ١٤و ١٥.


إن استخدام بولس لكلمة حرية لوصف الحياة المسيحية هو أمر أكثر بروزاً في رسائل بولس من باقي كلام الوحي المقدّس في العهد الجديد. فكلمة حرية ومشتقاتها تذكر ٢٨ مرة في رسائل بولس، في حين تذكر ١٣ مرة فقط في أسفار أخرى بالعهد الجديد.


ما الذي يعنيه بولس بالحرية؟ أولاً، كلمة حرية هي ليست مفهوماً مجرداً. وهي لا تشير إلى الحرية السياسية، الاقتصادية، أو حرية العيش بالطريقة التي تروق لنا. بالعكس، إنها حرية متجذرة في علاقتنا بيسوع المسيح. ويبيّن المضمون بأنّ بولس يقترح بأنّها حريّة من عبوديّة الخطيّة والموت الأبدي ومن الشيطان.


«بمعزل عن يسوع المسيح، يتسم الوجود البشري بأنه عبودية — عبودية للناموس، عبودية للعوامل الشريرة التي تسيطر على العالم، عبودية للخطية، للجسد، وللشيطان. ولقد أرسل ﷲ ابنه للعالم ليقطع أوصال هذه العبوديّة» (تيموثي جورج، سفر غلاطية، صفحة ٣٥٤).






العواقب الوخيمة للتقيد الحرفي بالناموس

(غلاطية ٥: ٢-١٢)


الطريقة التي يتناول بها الرسول بولس غلاطية ٥: ٢-١٢ تشير إلى أهمية ما هو مزمع أن يقوله، فهي تظهر في بعض الترجمات هكذا. «انظروا»، «اسمعوا»، «تذكروا كلماتي»، وفي اللغة العربية تُقرأ هكذا « هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُم». إن بولس لا يعبث ولا يضيّع الوقت سُدى. فهو باستخدامه القوي لكلمة «ها» أو «انظروا»، في بعض الترجمات، فهو لا يسترعي انتباه قارئيه فحسب بل يستعمل سلطته الرسولية. كان بولس يريد لهم إدراك أنه إذا كان حتميّاً على الأممييّن أن يختتنوا ليخلصوا، فحينئذ يكون لِزاماً على مؤمني غلاطية، حسب قول بولس، أن يتحقّقوا من النتائج الخطيرة المترتبة على قرارهم.


اقرأ غلاطية ٥: ٢-١٢. ما الذي يحذّر منه بولس فيما يتعلق بمجمل مسألة الختان؟


إنّ أولى النتائج المترّتبة على الختان أنّها تلزم الشخص أن يحفظ الناموس كلّه. ولغة بولس في الآيتين ٢و ٣ تعتمد على التلاعب بالألفاظ، فيقول «إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا!» فإنهم، بالأحرى، سوف يكونون مُلْزَمِين بأن يعملوا بكل الناموس. فإذا كان الشخص يريد العيش وفقاً للناموس، فإنه لن يستطيع انتقاء أو اختيار فقط البنود التي يرغب في حفظها. فإنه إما الكل أو لا شيء.


ثانياً، هم سوف «يَقْطَعُونَ» من المسيح. فالقرار بالتبرير بالأعمال يتضمن في الوقت ذاته رفضاً لطريقة ﷲ للتبرير بالمسيح. «لا يمكنك الحصول على الخلاص بكلا الطريقتين. فمن المستحيل بالنسبة لك قبول المسيح معترفاً بذلك أنك لا تستطيع تخليص نفسك، ثم تقبل بالختان زاعماً بذلك أنك تستطيع تخليص نفسك» [جون أر. و. ستوت، رسالة غلاطية (ليسستر، انكلترا: إينتر فرستي للنشر، ١٩٦٨)، صفحة ١٣٣].


أما السبب الثالث لاعتراض بولس على الختان فهو إعاقة الختان للنمو الروحي. وقد شبَّه ذلك بعدَّاء قد صُدَّ عَمداً عن التقدُّم نحو خط النهاية. في الحقيقة، إن الكلمة المترجمة «صَدَّ» (عد ٧)، كانت تُستخدم في الدوائر العسكرية لتشير إلى قطع طريق أو تدمير جسر أو وضع معرقلات وعقبات في طريق العدو وذلك لإيقاف تقدمه» (الموسوعة التفسيرية للأدفنتست، مجلد ٦، صفحة ٩٧٨).


وأخيراً، الختان ينهي ما قام به المسيح على الصليب لأجلنا. كيف؟ إن رسالة الختان تعني أنك تستطيع تخليص نفسك؛ وهذا في حد ذاته هو إطراء للكبرياء البشرية. أما رسالة الصليب، مع ذلك، فهي إذلال للكبرياء البشرية، لأنه علينا من خلال رسالة الصليب أن نعترف بأننا معتمدون تماماً على يسوع.


ولقد كان بولس غاضباً جداً من هؤلاء الناس بسبب إصرارهم على الختان لدرجة قوله إنه يتمنى لو تنزلق السكين من أيديهم فيخْصون بذلك أنفسهم! إنها كلمات صارمة في غاية القسوة والفظاعة، ولكنّ نغمة بولس تعبّر ببساطة عن مدى تأثّره بهذا الأمر الخطير.




حرية وليس إباحية (غلاطية ٥: ١٣)


تمثِّل غلاطية ٥: ١٣ نقطة تحول هامة في سفر غلاطية. حيث أن بولس كان إلى هذه النقطة قد ركّز تماماً على المضمون اللاهوتي لرسالته، وها هو الآن يتحول إلى مسألة السلوك المسيحي. كيف ينبغي للشخص الذي لا يخلص بأعمال الناموس أن يعيش حياته؟


ما هو العمل الذي فيه سوء استخدام محتمل للحرية وأراد بولس من مؤمني غلاطية عدم ارتكابه؟ غلاطية ٥: ١٣.


لقد كان بولس مدركاً تماماً لاحتمالية إساءة الفهم التي ترافق تأكيده على النعمة والحرية التي للمؤمنين في المسيح (رومية ٣: ٨؛ ٦: ١و ٢). ومع ذلك، فلم تكن المشكلة في بشارة بولس وإنما في النزعة البشرية للانغماس في أمور الذات. وصفحات التاريخ مليئة بقصص أشخاص ومدن وأمم ممن كان فسادهم وانحطاطهم الأخلاقي مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بعوزهم وافتقارهم إلى ضبط النفس. ومَن منا لم يشعر بهذا الميل في حياته الخاصة، أيضاً. لهذا يدعو بولس بوضوح أتباعه في المسيح إلى تجنب الانغماس في الجسد. في الحقيقة، هو يريد لهم عمل العكس فيقول، «اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا». ومثلما يعرف كل شخص ممن يقومون بخدمة الآخرين بدافع المحبة، فإن هذا شيء يمكن عمله فقط من خلال الموت عن الذات، الموت عن الجسد. وأولئك الذين ينغمسون في خدمة أجسادهم ليسوا هم مَن يميلون إلى خدمة الآخرين. بل على العكس من ذلك.


وهكذا فإن حريتنا في المسيح هي ليست مجرد حرية من الاستعباد للعالم، لكنها دعوة إلى نوع جديد من الخدمة، أي مسؤولية خدمة الآخرين بدافع المحبة. إنها «الفرصة لمحبة القريب دون عائق، وهي إمكانية تأليف مجتمع بشري مؤسس على العطاء المتبادل للذات بدلاً من السعي إلى السلطة والمكانة والنفوذ» [سام ك. ويليامز، غلاطية (ناشفيل، تنيسي: دار أبينجدون للنشر، ١٩٩٧)، صفحة ١٤٥].


وبسبب إلمامنا بالمسيحيّة وبالتعبيرات المستخدمة في الترجمات الحديثة لغلاطية ٥: ١٣، فإنه يسهل إغفال القوة المذهلة التي تحملها هذه الكلمات لمؤمني غلاطية. أولاً، تشير اللغة اليونانية إلى أن المحبة التي تحفز هذا النوع من الخدمة ليست محبة بشرية عادية — هذا سيكون مستحيلاً؛ فإن المحبة البشرية شرطية إلى حد كبير. ويظهر استخدام بولس لأداة التعريف (الـ) قبل كلمة محبة في اللغة اليونانية إلى أنه كان يشير إلى «الـ» محبة الإلهية التي نتسلمها فقط من خلال الروح القدس (رومية ٥: ٥). وتكمن المفاجأة الحقيقية في الكلمة المترجمة «اخْدِمُوا» إذ أن الكلمة اليونانية [أو العبارة] المستخدمة هي «أن تكونَ مُسْتَعْبَداً». فإن حريتنا ليست من أجل الحصول على حكم ذاتي لأنفسنا وإنما من أجل الاستعباد لواحدنا الآخر، الاستعباد المؤسس على محبة ﷲ.






إكمال كل الناموس (غلاطية ٥: ١٣-١٥)


كيف يمكنك التوفيق بين تعليقات بولس السلبية حول الـ «عمل بكل الناموس» (غلاطية ٥: ٣) وبين عبارته الإيجابية حول إكمال «كُلَّ النَّامُوسِ» غلاطية ٥: ١٤)؟ قارن رومية ١٠: ٥؛ غلاطية ٣: ١٠و ١٢؛ ٥: ٣ برومية ٨: ٤؛ ١٣: ٨؛ غلاطية ٥: ١٤.


رأى كثيرون أن المقارنة بين تعليقات بولس السلبية حول «عمل الناموس كله» وبين تأكيداته الإيجابية حول «إكمال الناموس» فيها تناقض. لكن ليس هناك تناقض. فإن الحل أو التوضيح يكمن في حقيقة أن بولس يستخدم عمداً كل عبارة ليجعل هناك تمييزاً هاماً بين طريقتين مختلفتين لتعريف السلوك المسيحي فيما يتعلق بالناموس. على سبيل المثال، من المهم ملاحظة أن بولس، عندما يشير إيجابياً إلى حفظ المسيحي للناموس، فإنك تجده لا يصف ذلك على أنه «عمل الناموس». وإنما هو يستخدم هذه العبارة «أعمال الناموس» للإشارة إلى السلوك الخاطئ من قِبل أولئك الذين يعيشون تحت الناموس ويحاولون كسب رضا ﷲ بواسطة «عمل» ما يأمر به الناموسُ.


وهذا لا يعني أن أولئك الذين وجدوا الخلاص في المسيح لا يطيعون [الناموس]. هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. يقول بولس أنهم «أكملوا» الناموس. لكنه يعني أن سلوك المسيحي الحقيقي هو أكثر بكثير من مجرد الطاعة الخارجية المتمثلة فقط في «عمل» الناموس؛ إن السلوك المسيحي الحقيقي «يُكمِّل» الناموس. ويستخدم بولس كلمة «يُكمِّل» لأنها تذهب إلى ما هو أبعد من مجرد «العمل» بالناموس. إن هذا النوع من الطاعة متجذر في المسيح (انظر متى ٥: ١٧). إن الطاعة ليست تخلياً عن الناموس، أو اختزال الناموس في أن تحب، لكن الطاعة هي الطريقة التي يمكن للمؤمن من خلالها اختبار الهدف والمعنى الحقيقيين للناموس بأكمله!


وفقاً لبولس، أين يوجد المعنى الكامل للناموس؟ لاويين ١٩: ١٨؛ مرقس ١٢: ٣١و ٣٣؛ متى ١٩: ١٩؛ رومية ١٣: ٩؛ يعقوب ٢: ٨.


بالرغم من أن عبارة بولس هي اقتباس من سفر اللاويين، إلاَّ أن استخدامه لها كان أساسه استخدام المسيح للاويين ١٩: ١٨. ولم يكن المسيح، مع ذلك، هو المعلّم اليهودي الوحيد الذي أشار إلى لاويين ١٩: ١٨ كَمُلَخَّص للناموس بأكمله. فإن الحاخام هليل، الذي عاش قبل المسيح بحوالي جيل، قال، «ما هو مكروه لك لا تفعله إلى قريبك؛ هذا هو كل الناموس». لكن منظور المسيح كان مختلفاً بشكل جذري (متى ٧: ١٢). فإن منظور المسيح لم يكن أكثر إيجابية فحسب، لكنه أظهر أن الناموس والمحبة ليسا متضاربين أو متنافرين. فبدون المحبة يكون الناموس جامداً وقاسياً؛ والمحبة من دون الناموس لا وجهة لها ولا اتجاه.






لمزيد من الدرس: «إن الإيمان الحقيقي يعمل بالمحبة دائماً. وعندما تنظر إلى الجلجثة فإنك لا تفعل ذلك لطمأنة بالك بشأن عدم تأديتك للواجب، ولا لِتُعِد نفسك للهجوع، وإنما لينشأ بداخلك إيمان في المسيح، إيمان عامل، إيمان مُطهّر للنفس من وحل الأنانية. وعندما نتشبث بالمسيح بالإيمان، فإن عملنا حينها يكون قد بدأ للتو. لكل إنسان عاداته الفاسدة والآثمة والتي يجب التغلب عليها بحرب شرسة ضروس. وكل شخص مطالب بالمحاربة في معركة الإيمان. وإذا كان الشخص تابعاً ليسوع، فلا يمكنه أن يكون شرساً في تعامله، ولا يمكنه أن يكون غليظ القلب مجرداً من الرحمة. ولا يمكنه أن يكون فظاً في كلامه. ولا يمكنه أن يكون ممتلئاً بالتباهي والافتخار. ولا يمكنه أن يكون متعجرفاً، ولا يمكنه استعمال كلمات قاسية حادّة، ولا يمكنه الانتقاد والاستهجان والإدانة.


«ينبع عمل المحبة من الإيمان. وما تعنيه ديانة الكتاب المقدس هو العمل المتواصل.’فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ‘ ’تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ‘. علينا أن نكون متحمسين للأعمال الصالحة؛ احرصوا على القيام بأعمال صالحة. ويقول الشاهد الأمين، ‹أَنَا عَارِفٌ أَعْمالَكَ›.


«وبينما هو صحيح أن نشاطاتنا الصالحة هذه لا تكفل الخلاص في ذاتها، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن الإيمان الذي يوحّدنا بالمسيح سيحرّك فينا روح العمل من أجله (مخطوطة ١٦، ١٨٩٠)» [تعليقات روح النبوة، الموسوعة التفسيرية للأدفنتست، مجلد ٦، صفحة ١١١١].




ملخص الدرس: إن كلمة الحرية هي من كلمات بولس المفضلة لتعريف بشارة الإنجيل. فهي تشمل كلاً من: ما قام المسيح به لأجلنا لتحريرنا من عبودية العالم، وتشمل كذلك دعوتنا إلى عيش الحياة المسيحية. علينا توخي الحذر، مع ذلك، حتى لا تقع حريتنا فريسة إما للتزمت والتقيُّد الحرفي بالناموس، أو للفسق والفجور. إن المسيح لم يحررنا لكي نخدم أنفسنا، بل لكي نكرّس حياتنا لخدمة الآخرين.


الدرس الثاني عشر


٩- ١٥ أيلول (سبتمبر)


الحياة بالروح






السبت بعد الظهر


المراجع الأسبوعية: غلاطية ٥: ١٦-٢٥؛ تثنية ١٣: ٤و ٥؛ رومية ٧: ١٤-٢٤؛ إرميا ٧: ٩؛ هوشع ٤: ٢؛ متى ٢٢: ٣٥-٤٠.


آية الحفظ: «وَإِنَّمَا أَقُولُ: اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ» (غلاطية ٥: ١٦).


أكثر الترانيم المسيحية المحببة هي ترنيمة روبرت روبنسون «تعال، أنت يا ينبوع كل البركات». مع ذلك، لم يكن روبنسون رجل إيمان دائماً. فلقد تسبب موت والده في جعله ساخطاً ومن ثم سقط في براثن الفسق والسُّكْرِ. وبعد سماعه للواعظ الشهير جورج وايتفيلد، سلَّم روبنسون حياته للرب وأصبح قساً في كنيسة «الميثوديست». وكتب هذه الترنيمة التي تضمنت في الأصل البيت الشعري الآتي: «أشعر بأني ميَّالٌ للشرود والتخلّي عن إلهي الذي إيَّاه أهوى وإليه أُصلي.»


وعندما شعر أحد الأشخاص بعدم الارتياح لبيت الترنيمة المتعلق بقلب المسيحي الضال، قام بتغيير الكلمات فصارت تُقرأ هكذا: «أنا ميَّال لعبادتك يا ربي، أنا ميَّال لخدمتك بالحب، أنا بذلك أستكين».


وعلى الرغم من النوايا الحسنة لهذا الشخص الذي قام بتغيير كلمات الترنيمة، إلاَّ أن الكلمات الأصلية للترنيمة تصف صراع المسيحي بدقة بالغة. فنحن كمؤمنين نمتلك طبيعتين، الجسدية والروحية، وهما في صراع مع واحدتهما الأخرى. وعلى الرغم من أن طبيعتنا الآثمة ستكون «ميّالة» دائماً إلى الضلال والشرود بعيداً عن ﷲ، إلاَّ أنه إذا كنا مستعدين للتسليم لروح ﷲ، فإننا لن نكون مستعبدين لرغبات الجسد. هذا هو مضمون رسالة بولس في آيات هذا الأسبوع.


*نرجو التعمق في موضوع هذا الدرس استعداداً لمناقشته يوم السبت القادم الموافق ١٦ أيلول (سبتمبر).




السلوك بالروح


اقرأ غلاطية ٥: ١٦. ما علاقة مفهوم «السلوك» بحياة الإيمان؟ تثنية ١٣: ٤و ٥؛ رومية ١٣: ١٣؛ أفسس ٤: ١و ١٧؛ كولوسي ١: ١٠.


إن السلوك أو «السير» هو استعارة مأخوذة من العهد القديم وهي تشير إلى الطريقة التي يجب للشخص أن يتصرف بها. وبولس، الذي كان هو نفسه يهودياً، يستعمل هذه الاستعارة كثيراً في رسائله ليصف السلوك الذي يجب أن يميز الحياة المسيحية. ومن المحتمل أيضاً أن يكون استعماله لهذه الاستعارة له صلة بالاسم الأول الذي كان مرتبطاً بالكنيسة الأولى. فقبل أن يُدعى أتباع المسيح «مَسِيحِيِّينَ» (أعمال ١١: ٢٦)، كانوا ببساطة يُعرفون كأتباع «الطَّرِيق» (يوحنا ١٤: ٦؛ أعمال ٢٢: ٤ و٢٤: ١٤). ويوحي ذلك بأن المسيحية، وفي تاريخ مبكر جداً، لم تكن مجرد مجموعة من المعتقدات اللاهوتية التي تركز على المسيح ولكنها كانت أيضاً «مَسْلَك» حياةٍ ينبغي أن «يُسْلَكْ».


بأية طريقة تختلف استعارة بولس حول السير أو السلوك عن تلك الموجودة في العهد القديم؟ قارن خروج ١٦: ٤؛ لاويين ١٨: ٤؛ إرميا ٤٤: ٢٣ بغلاطية ٥: ١٦و ٢٥؛ رومية ٨: ٤.


لم يكن السلوك في العهد القديم يُعرف كمجرد «سير» وإنما كان يُعرف بشكل خاص على أنه «السلوك في الناموس». والمصطلح «Halakhah» هو المصطلح القانوني الذي يستعمله اليهود للإشارة إلى القواعد والتعليمات الموجودة في كل من الشريعة والتقاليد الخاصة بأسلافهم من الأحبار. وفي حين يُترجم المصطلح «Halakhah»عادة على أنه «الشريعة اليهودية»، إلاَّ أن الكلمة في الحقيقة مستندة على الكلمة العبرية التي تعني «أن تسير» ومعنى هذا المصطلح بشكل حرفي هو «طريق المسير، أو طريق السلوك».


وتعليقات بولس بشأن «السلوك بالروح» ليست مناقضة لطاعة الناموس. وهو لا يقترح أنه ينبغي للمسيحيين أن يعيشوا بطريقة فيها انتهاك للناموس. ومرة أخرى، نجد أن بولس لا يعارض الناموس أو إطاعة الناموس. إن ما يعترض عليه بولس هو الطريقة المتزمتة التي كان يُساء استعمال الناموس من خلالها. لكن الطاعة الأصلية التي يرغب فيها ﷲ لا يمكن بلوغها من خلال الإلْزام الخارجي ولكن فقط بواسطة التحفيز الداخلي المُنقادِ بِالرُّوحِ (غلاطية ٥: ١٨).






صراعات المسيحي


«لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُون» (غلاطية ٥: ١٧ ؛ انظر كذلك رومية ٧: ١٤-٢٤). كيف اختبرت أنت، في حياتك الخاصة كمؤمن، الحقيقة القاسية والمؤلمة لهذه الكلمات؟


إن الصراع الذي يصفه بولس هو ليس صراع كل إنسان؛ إنما هو يشير إلى الحرب الداخلية الموجودة في أعماق المسيحي. لأنّ البشر مولودين في تآلف مع رغبات الجسد (رومية ٨: ٧)، فإنه فقط عندما نولد من جديد بالروح حتى تبدأ الحرب الروحية الحقيقية في الظهور (يوحنا ٣: ٦). هذا لا يعني أن غير المسيحيين لا يختبرون أبداً صراعاً أخلاقياً؛ هم بالتأكيد يختبرون ذلك. لكن حتى هذا الصراع هو في النهاية نتيجة عمل الروح. إلا أن صراع المسيحي مع ذلك يتخذ بُعداً جديداً، لأن المؤمن يمتلك طبيعتين، الطبيعة الجسدية والطبيعة الروحية، وهما في حرب مع واحدتهما الأخرى.


على مر التاريخ، تاق المسيحيون إلى الراحة والإنقاذ من هذا الصراع. ولقد اختار البعض منهم إنهاء هذا الصراع من خلال الانسحاب من المجتمع، في حين زعم آخرون أن الطبيعة الآثمة يمكن استئصالها من خلال بعض أعمال النعمة الإلهية. والمحاولتان كلتاهما مضللتان. فعلى الرغم من أننا حتماً نستطيع من خلال قوة الروح أن نُخضع رغبات الجسد، إلاَّ أن الصراع سيستمر بطرق مختلفة إلى أن نتسلم جسداً جديداً عند المجيء الثاني للمسيح. إن الهرب من المجتمع لا يفيد. لأننّا أينما ذهبنا فإننا نحمل معنا ذلك النزاع حتى الموت أو إلى مجيء الرب ثانيةً.


ولأننا نمتلك طبيعتين، فإننا بشكل حرفي نقف على جانبي المعركة كليهما في ذات الوقت. ويرغب الجزء الروحي فينا في ما هو روحي ويبغض ما هو للجسد. أما الجزء الجسدي فينا، مع ذلك، فيتوق إلى أمور الجسد ويعارض ما هو روحي. ولأن العقل المهتدي ضعيف جداً ليقاوم الجسد بنفسه، فإن الرجاء الوحيد الذي لنا هو إخضاع الجسد من خلال اتخاذ قرار يومي بالوقوف في صف الروح ضد ميولنا الجسدية. وهذا هو السبب الذي من أجله يلح بولس علينا كي نختار السلوك بالروح.






أعمال الجسد


بعد أن عرض بولس الخصام والصِرَاع القائم بين الجسد والروح، نجده في غلاطية ٥: ١٨-٢٦ يشرح بالتفصيل طبيعة هذا التضارب والنزاع، وقد فعل بولس ذلك من خلال عرض قائمة من الفضائل والرذائل. وقد كان تصنيف الفضائل والرذائل سمة أدبية مميزة وراسخة في كل من الأدب اليهودي وكذلك الأدب اليوناني- الروماني. وتعمل هذه القوائم على تحديد السلوك الذي يجب تجنبه، وكذلك الفضائل التي يجب الاحتذاء بها ومحاكاتها.


ادرس بعناية قائمتي الفضائل والرذائل الواردتين في الفقرات أدناه. ما هي أوجه الشبه وكذلك أوجه الاختلاف بين قائمتي بولس في غلاطية ٥: ١٩-٢٤ والقوائم الموجودة في المراجع الكتابية التالية؟ إرميا ٧: ٩؛ هوشع ٤: ٢؛ مرقس ٧: ٢١و ٢٢؛ ١تيموثاوس ٣: ٢و ٣؛ ١بطرس ٤: ٣؛ رؤيا ٢١: ٨.


على الرغم من أن بولس كان مدركاً بشكل جيد لأسلوب القوائم المشتملة على الفضائل والرذائل، إلا أن هناك اختلافات كبيرة في الطريقة التي استخدم بها بولس هاتين القائمتين في غلاطية. أولاً، على الرغم من أن بولس كان يباين ويقارَن بَيْنَ القائمتين، إلا أنه لا يشير إليهما بنفس الطريقة. فهو يُطلق على قائمة الرذائل اسم «أعمال الجسد»، في حين يُطلق على قائمة الفضائل اسم «ثمر الروح». وهذا تمييز هام. وكما كتب جيمس د. ج. دن، «الجسد يطلب» ولكنّ «الروح ينتج». فبينما القائمة الأولى تبيّن روح الغطرسة، والانغماس في الملذات الشخصية، تتحدّث القائمة الثانية عن الاهتمام بالآخرين والثبات والرزانة والرصانة وتحمّل المسئوليّة. الأولى يهمّها الهيمنة البشريّة والثانية تهتمّ بالقوّة العلوية المعينة، النعمة المؤكّدة على أنّ التغيير الداخلي هو مصدر السلوك المسؤول الذي يمكن الاعتماد عليه» (كتاب الرسالة إلى أهل غلاطية، صفحة ٣٠٨).


والفرق الثاني المُلفت للنظر بين قائمتي بولس هو أنّ قائمة الرذائل موضوعة في صيغة الجمع «أعمال الجسد» وأمّا «ثمر الروح» فقد ورد ذكره في صيغة المفرد. وقد يوحي هذا الاختلاف بأن الحياةَ التي نعيشها في الجسدِ لا تستطيع أن تنتج شيئاً غير الفرقة والفوضى والانقسام. وعلى النقيض من ذلك فالحياة المنقادة بالروح تنتج نوعاً فريداً من ثمر الروح الذي يتجلى في تسع صفات تعزز الاتحاد.


وفي هذا السياق، يدَّعي البعض بأنّ ما يعتقده الإنسان عن ﷲ لا يهم حقاً مادام هذا الشخص مخلِصاً وصادقاً. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. فإن قائمة بولس المشتملة على الرذائل توحي بعكس ذلك: فوجهات النظر المغلوطة حول ﷲ تؤدي إلى أفكار مشوهة حول السلوك الجنسي والديني والأخلاقي، الشيء الذي ينتج عنه انهيار العلاقات البشرية. علاوة على ذلك، يمكن لوجهات النظر الفاسدة هذه أن تؤدي إلى خسارة الحياة الأبدية كذلك (غلاطية ٥: ٢١).






ثمر الروح (غلاطية ٥: ٢٢-٢٤)


«وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ» (غلاطية ٥: ٢٢و ٢٣). كيف تعكس طاعتنا للوصايا العشر ثمر الروح كما هو مُعَبَّرٌ عنه في هذه الآيات؟ (انظر كذلك متى ٥: ٢١و ٢٧و ٢٨؛ ٢٢: ٣٥-٤٠).


الوصايا العشر ليست بديلاً عن المحبة؛ هي تساعد في إرشادنا إلى كيفية إظهار المحبة نحو كل من ﷲ والإنسانية. ومهما كان مقدار ما تظهره المحبة من تفوُّق على المعنى الحرفي للناموس، إلا أن المحبة ليست في تضارب مع الناموس. وفكرة أن محبتنا لله ومحبتنا لأخينا الإنسان تبطل الوصايا العشر هي مثل قولنا بأن محبتنا للطبيعة تبطل قانون الجاذبية الأرضية.


ونجد أيضاً تناقضاً بين الأوصاف الخمس عشر لأعمال الجسد وبين ثمر الروح المستعلن في تسع فضائل سامية. فيعتقد بعض العلماء والمفكّرين بأنّ هذه الفضائل التسعة هي متسّقة في ثلاث عناقيد ثلاثيّة. وقد يبقى اختلاف من ناحية ترتيبها. ويرى البعض فيها إشارة إلى الثالوث الأقدس في العدد ثلاثة. ويرى آخرون بأنّ الثلاثة فروع تشير إلى الطرق التي بها نرتبط بالذات الإلهيّة وبالناس وأخيراً بأنفسنا. كما يرى آخرون أنّ هذه القائمة تشير إلى وصف يسوع ذاته. ورغم أن كل من وجهات النظر هذه تشتمل على بعض الأمور الجديرة بالتمعن، إلا أن النقطة الأهم والتي لا ينبغي تجاهلها هي الأهمية الكبرى التي يوليها بولس للمحبة في الحياة المسيحية.


وليس من قبيل الصدفة أن يضع بولس المحبة كأولى الفضائل التسع في قائمته. فهو قد سبق وأبرز بالفعل دور المحبة المركزي في الحياة المسيحية وذلك في غلاطية ٥: ٦و ١٣، كما أدرج بولس المحبة في قائمة الفضائل المذكورة بأماكن أخرى من رسائله (٢كورنثوس٦: ٦؛ ١تيموثاوس ٤: ١٢و ٦: ١١؛ ٢تيموثاوس ٢: ٢٢). وفي حين تظهر بقية الفضائل بمصادر أدبية غير مسيحية أيضاً، فمن الواضح أن المحبة هي [فضيلة] مسيحية من الدرجة الأولى. كل هذا يشير إلى أنه لا ينبغي أن يُنظر إلى المحبة على أنها مجرد واحدة من بين العديد من الفضائل وإنما على أنها الفضيلة المسيحية الأساسية، وعلى أنها مفتاح كل الفضائل الأخرى. إن المحبة هي الثمر البارز للروح (١كورنثوس ١٣: ١٣؛ رومية ٥: ٥)، وينبغي للمحبة أن تُحدّد وتُميز حياة وسلوك كل مسيحي (يوحنا ١٣: ٣٤و ٣٥)، مهما كان من الصعب إظهار المحبة في بعض الأحيان.






الطريق إلى النصرة


على الرغم من أن الصراع الداخلي بين الجسد والروح سيواصل الاحتدام دائماً في قلب كل مؤمن، إلا أن الحياة المسيحية لا ينبغي أن يسودها الفشل والهزيمة والخطية.


وفقاً لغلاطية ٥: ١٦-٢٦، ما هو السبيل إلى عيش حياة يسود فيها الروح على الجسد؟


تحتوي غلاطية ٥: ١٦-٢٦ على خمسة أفعال رئيسية تصف نوع الحياة التي يسود فيها الروح. أولاً، يحتاج المؤمن إلى «السلوك» بالروح (عد ١٦). والفعل اليوناني هو « peripateo»، الذي يعني حرفياً «أن تسير بالقرب من أو أن تتبع». ولقد عُرف أتباع الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو بالـ «Peripatetics» لأنهم كانوا يتبعون أرسطو حيثما ذهب. وحقيقة أن الفعل يأتي في صيغة المضارع تعني أن بولس لا يتحدث عن مسيرة مؤقتة، لكنه بالأحرى يشير إلى اختبار يومي متواصل. بالإضافة إلى ذلك، وبما أن العبارة تأتي في صيغة الأمر أيضاً، «اسلكوا» بالروح، فإن ذلك يعني أن السلوك بالروح هو اختيار علينا القيام به بصفة يومية.


الفعل الثاني هو أن تكون «منقاداً» (عد ١٨). وهذا يشير إلى أننا بحاجة أيضاً إلى السماح للروح القدس بأن يقودنا إلى حيث ينبغي أن نذهب (قارن رومية ٨: ١٤؛ ١كورنثوس ١٢: ٢). إن عملنا هو ليس القيادة وإنما الانصياع والإتباع.


يظهر الفعلان التاليان في غلاطية ٥: ٢٥. الفعل الأول هو أن «نعيش» (zao باللغة اليونانية). ويقصد بولس «بالعيش» اختبار الولادة الجديدة الذي ينبغي أن يميز حياة كل مؤمن. واستخدام بولس لصيغة المضارع يشير إلى اختبار الولادة الجديدة الذي ينبغي تجديده بصفة يومية. ولأننا نعيش بالروح، لذلك يستطرد بولس في الكتابة قائلاً أننا بحاجة إلى «السلوك» بالروح. والكلمة المترجمة «سلوك أو اسلكوا» هي «stoicheo» وهي مصطلح عسكري يعني حرفياً «أن تقف في صف أو طابور»، «أن توازي»، أو «أن توافق أو تطابق». والفكرة هنا هي أن الروح القدس لا يعطينا الحياة فحسب، ولكنه ينبغي أن يقود ويوجِّه حياتنا بصفة يومية أيضاً.


والفعل الذي يستخدمه بولس في عد ٢٤ هو «صَلْب». وهذا فعل صادم قليلاً. فإذا كنا سنتبع الروح، فعلينا أن نتخذ قراراً حازماً بإماتة رغبات الجسد. وبطبيعة الحال، يتحدث بولس هنا مجازياً. فنحن نَصْلُب الجسد من خلال إطعام حياتنا الروحية وتجويع رغبات الجسد.






لمزيد من الدرس: «إن حياة المسيحي ليست سهلة بالمرة. فلدى المسيحي صراعات شديدة ليواجهها. كما تهاجمه المغريات الصارمة. ’لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ‘. وكلما اقتربنا من نهاية تاريخ هذه الأرض كلما كانت هجمات العدو أكثر وأكثر تضليلاً. وستزداد هجماته ضراوة وستكون أكثر تواتراً. وأولئك الذين يقاومون النور والحق سيصبحون أكثر قساوة وأقل إحساساً، وسيزداد حنقهم ضد أولئك الذين يحبون ﷲ ويحفظون وصاياه (مخطوطة ٣٣، ١٩١١)» [روح النبوة الموسوعة التفسيرية للأدفنتست، مجلد ٦، صفحة ١١١١].


«إن تأثير الروح القدس هو تجلي حياة المسيح في النفس البشرية. نحن لا نرى المسيح ولا نتحدث إليه، لكن الروح القدس قريب منا في كل الأماكن. وهو يعمل بداخل ومن خلال كل مَن يقبل المسيح. وأولئك الذين يختبرون سكنى الروح القدس فيهم يُظهِرون ثمر الروح — مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ (مخطوطة ٤١، ١٨٩٧)» [روح النبوة، الموسوعة التفسيرية للأدفنتست، مجلد ٦، صفحة ١١١٢].




ملخص الدرس: على الرغم من وجود الصراع بين رغبات الجسد وأُمْنِيّات الروح في حياة المؤمنين، إلا أن الحياة المسيحية لا ينبغي أن يكون محكوم عليها بالفشل. ولأن المسيح قد قهر قوة الخطية والموت، فإن الحياة المسيحية يمكنها أن تكون حياة يسود فيها الروح القدس الذي يمدنا بنعمة ﷲ بصفة يومية فيمكِّننا مِن السيطرة على رغبات الجسد.


الدرس الثالث عشر


١٦- ٢٢ أيلول (سبتمبر)


بشارة الإنجيل والكنيسة






السبت بعد الظهر


المراجع الأسبوعية: غلاطية ٦: ١-١٠؛ متى ١٨: ١٥-١٧؛ ١كورنثوس ١٠: ١٢؛ رومية ١٥: ١؛ يوحينا ١٣: ٣٤؛ لوقا ٢٢: ٣.


آية الحفظ: «فَإِذًا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ» (غلاطية ٦: ١٠).


قرر بعض مزارعي البطاطس الاحتفاظ بأكبر حبات البطاطس لأنفسهم وزرع حبات البطاطس الصغيرة كبذار لمحصول العام الجديد. وبعد بضعة محاصيل ضعيفة، اكتشفوا بأنّ الطبيعة قد قلّصت من حجم محاصيلهم فجعلت الحبة في حجم البِلْيَة الصغيرة: [البِلْيَة أو الكِلَّة، وهي كرة رخامية أو زجاجية صغيرة يلعب بها الأطفال: قاموس المورد]. فلقد تعلّم أولئك الفلاحون قانوناً هامّاً في الحياة: «إنهم لا يستطيعون الاحتفاظ بأفضل الأشياء في الحياة لأنفسهم واستخدام ما تبقى ليكون بذوراً للمحصول التالي. فقانون الحياة ينص على أن الحصاد من شأنه أن يعكس البذار الذي زُرِع.


«وبمعنى آخر، لا تزال زراعة الحبات الصغيرة [مثل حبات البطاطس] ممارسة شائعة. فنحن نأخذ الأشياء الكبيرة في الحياة لأنفسنا ونزرع البقايا. ونتوقع أنه من خلال بعض التطورات المجنونة للقوانين الروحية يمكن لأنانيتنا أن تكافأ بسخاء وكرم» (نشرة زمالة الطالب الدولي، آذار/مارس ٢٠٠٧).


يطبِّق بولس هذا المبدأ في غلاطية ٦: ١-١٠. فبدلاً من أن يقوم الأعضاء بـ « نْهَش ... وَأْكُلِ» بَعْضهم بَعْضًا (غلاطية ٥: ١٥)، فيجب أن تكون الكنيسة المكان الذي يقودنا فيه روح ﷲ لأن نقدِّم فيه الآخرين على أنفسنا «مدركين أننا نَخْلُصُ بالنعمة مما يجعلنا متضعين وأكثر صبراً وحناناً ورقّةً في معاملة الآخرين.


*نرجو التعمق في موضوع هذا الدرس استعداداً لمناقشته يوم السبت القادم الموافق ٢٣ أيلول (سبتمبر).




استرداد الساقطين


بينما كان لبولس توقعات سامية لطبيعة الحياة المسيحية (غلاطية ٥: ١٦) إلا أنه كان يتمتع بالواقعية كذلك. فالبشر ليسوا كاملين، وحتى المسيحيين الأكثر تكريساً هم ليسوا في مأمن من الأخطاء. وفي اللغة اليونانية، تُشير كلمات بولس في غلاطية ٥: ١٦ إلى أنه يتصور حالة من المحتمل حدوثها في الكنيسة في وقت ما. ويقدم بولس لمؤمني غلاطية نصيحة عملية حول كيفية التعامل مع حالة مثل هذه عند حدوثها.


كيف يمكن للمسيحيين أن يتصرفوا إِنْ حدث وسقط واحد من رفقائهم المؤمنين وأُخِذَ فِي زَلَّةٍ؟ غلاطية ٦: ١؛ متى ١٨: ١٥-١٧.


للاستفادة من مشورة بولس في غلاطية ٦: ١، نحن بحاجة إلى أن نفهم تحديداً نوع الحالة التي كان يفكر فيها بولس. وتدور هذه الحالة حول كلمتين اثنتين اُستخدمتا في النصف الأول من الآية. الكلمة الأولى هي «انْسَبَقَ» أو «أُلْحِقَ» أو «أُدْرِكَ»، وفقاً للترجمات المختلفة. وهي تعني بشكل حرفي «أن تَضبط» أو «أن تُباغت» أو «تَلحق» أو «تُفاجئ». ويوحي سياق هذه الكلمة، بالإضافة إلى مختلف الفروق الدقيقة المرتبطة بها، إلى أن بولس كان يفكر في شأنين. فهي لا تشير فقط إلى المؤمن الذي « أَدْرَك» مؤمناً آخراً في فعل خاطئ ولكنها تشير أيضاً إلى الطريقة التي يجد الشخص فيها نفسه «مُباغَتاً» بسلوك معين (انظر أمثال ٥: ٢٢)، وفي أفضل الظروف، كان يمكن للشخص اختيار تجنّب الإقدام على هذا السلوك.


ومن المحتمل أن يكون الخطأ المُرتكب والذي يناقشه بولس لم يكن مقصوداً مِن قِبل مرتكِبه، ويتضح ذلك من خلال المصطلحات التي يستخدمها بولس. فالكلمة المترجمة «زَلَّةٍ» أو «خطية»، والتي تشتق من الكلمة اليونانية «paraptoma»، لا تشير إلى خطية متعمدة ولكن بالأحرى إلى خطأ، عثرة، أو خطوة خاطئة غير مقصودة. والتوضيح الأخير يبدو منطقياً أكثر في ضوء تعليقات بولس السابقة حول «السلوك» بالروح. وبالرغم من أن ذلك ليس بأي حال من الأحوال عذراً لخطأ الشخص، إلا أنه يوضح بأنّ بولس لا يتعامل مع عصيان مبيّت أو معصية مقصودة (١كورنثوس ٥: ١-٥).


ولا ينبغي أن يكون العقاب أو الإدانة أو حرمان الشخص من عضوية الكنيسة هو الرد المناسب في مثل هذه الظروف، وإنما الإصلاح. والكلمة اليونانية المترجمة «إصلاح» هي «katartizo»وتعني أن «تصلّح أو تعدّل» أو أن «تعيد للنصاب». وتستخدم هذه الكلمة في العهد الجديد للإشارة إلى «إصلاح» شباك صيد السمك (متى ٤: ٢١). وفي الأدب اليوناني، كانت تُستخدم هذه الكلمة كمصطلح طبي يصف معالجة العظام المكسورة بالجسم. ومثلما لا نقوم بالتخلِّي عن أحد رفقائنا من المؤمنين لمجرد سقوطه على الأرض وانكسار ساقه، يجب علينا كأعضاء في جسد المسيح أن نهتم برقة وبلطف بإخواننا وأخواتنا في المسيح ممن قد يعثرون ويسقطون أثناء سيرهم معنا في طريق ﷲ نحو الملكوت.






احذروا من التجربة


« فَقَالَ نَاثَانُ لِدَاوُدَ: ‹أَنْتَ هُوَ الرَّجُلُ!› » (٢صموئيل ١٢: ٧).


لا يجب إغفال كلمات بولس الجادة في غلاطية ٦: ١، والتي تدعونا إلى أن نحترس لحياتنا لئلا نُجَرَّب نحن أيضاً. ويمكننا ملاحظة أهمية هذا الأمر، ومدى اهتمام بولس الشخصي به وما دفعه إلى إعطاء هذه المشورة، من خلال الطريقة التي بها يقدّم توسّله إليهم. فالكلمة المترجمة «نَاظِرًا» أو «ملاحظاً» تعني حرفياً «تنظر بعناية وحرص» أو «أن تنتبه جيداً» (قارن رومية ١٦: ١٧، فيلبي ٢: ٤). إذن، فما يقوله بولس حرفياً هو أن «تنتبه إلى نفسك جيداً» لئلا تباغتك الخطية أنت أيضاً. ولإبراز هذا التحذير، ينتقل بولس من الحديث بصيغة ضمير المخاطب الجمعي («أَنْتُمُ») في نصف الآية الأول بغلاطية ٦: ١ إلى الحديث بصيغة ضمير المخاطب المفرد («أَنْتَ») في النصف الأخير من نفس الآية. إنه تحذير شخصي مُقدّم إلى كلّ شخص داخل الكنيسة.


ولا يحدد بولس بوضوح طبيعة التجربة التي يحذّر مؤمني غلاطية منها بشدة. ربما لأنه لم تكن لديه خطية معينة بالذهن يشير إليها، ولكنه كان ببساطة يشير إلى خطر اقتراف نفس الزلة التي يحاولون إنقاذ (إصلاح) شخص آخر منها. وفي الوقت نفسه، فإن كلمات بولس المعارضة لفكرة أن يكون الأشخاص «مُعْجِبِينَ» في غلاطية ٥: ٢٦ تشير إلى أنه يحذّرهم من الشعور بأنهم بطريقة ما متفوقون روحياً على أولئك الذين يحاولون إصلاحهم.


لماذا اضطرّ بولس أن يحذّر الغلاطيين من الكبرياء الروحي؟ فكر ملياً في الآيات التالية: ١كورنثوس ١٠: ١٢؛ متى ٢٦: ٣٤؛ ٢صموئيل ١٢: ١-٧.


مِن أعظم المخاطر التي تعوق السلوك المسيحي هو أن تستشعر كبرياء روحيّة تجعلك تعتقد بأنّك أرفع من أن تقترف نوعاً معيّناً من الخطايا. ولكن الحقيقة الواقعة هي أننا جميعاً لدينا نفس الطبيعة الشريرة — طبيعة معارضة لله. ولهذا فإنّه بدون قوّة روح ﷲ الحافظة، فإننّا قابلون للانزلاق في أي خطيّة لو أُتيحت لنا الفرصة. ويمكن لإدراكنا لحقيقة طبيعتنا البشرية بمعزل عن المسيح أن يحفظنا من السقوط في خطية البرِّ الذاتي، ويمكن لهذا الإدراك أيضاً أن يساعدنا على إظهار الشفقة والعطف نحو مَن يرتكبون الأخطاء.






حَمل الأعباء والأثقال (غلاطية ٦: ٢-٥)


بالإضافة إلى إصلاح مَن سقط، ما هي التعليمات الأخرى التي يعطيها بولس للمؤمنين في غلاطية؟ (غلاطية ٦: ٢-٥؛ أنظر أيضاً رومية ١٥: ١؛ متى ٧: ١٢).


إن الكلمة اليونانية المترجمة «حِمْل» في غلاطية ٦: ٢ هي «baros». وهي تُشير حرفياً إلى شيء ثقيل أو حمولة كان على الشخص حملها لمسافة طويلة. وبمرور الوقت، مع ذلك، صارت الكلمة استعارة لأي نوع من المشكلات أو المصاعب، مثل ثِقَل (حِمْلَ) يوم عمل طويل في جو حار (متى ٢٠: ١٢). مع ذلك فـعبارة «اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ» في السياق المباشر لحديث بولس، تتضمن بالتأكيد حَمْلَ هفوات رفقائنا المؤمنين المشار إليها في الآيات السابقة، ولقد كان مفهوم حَمْل الأحمال الذي يضعه بولس في الاعتبار أوسع مجالاً بكثير من مجرد الأحمال الجسدية. وتُظهر تعليمات بولس عدة مفاهيم روحية حول الحياة المسيحية لا يجب تجاهلها.


أولاً، وكما يشير تيموثي جورج، «لدى كل المسيحيين أحمالاً وأعباء. وقد تختلف أحمالنا في الحجم والشكل، وستختلف كذلك في النوع. ويعتمد ذلك على الحالة التي نعاني منها في الحياة. فبالنسبة للبعض يكون الحِمْل هو التجربة وعواقب الزلة الأخلاقية التي سقطوا فيها، كما في عد ١ هنا. وبالنسبة للبعض الآخر قد يكون الحِمل هو مرض جسماني، أو اضطراب عقلي، أو كارثة أُسرية، أو انعدام فرص العمل، أو سلطان شيطاني، أو مجموعة من الأمور الأخرى؛ لكن ما مِن مسيحي مستثنى من الأثقال والأعباء» (تعليقات على سفر غلاطية، صفحة ٤١٣).


ثانياً، لا يريد ﷲ لنا أن نحمل كل أحمالنا بمفردنا. لسوء الحظ، نحن في أغلب الأحيان نكون مستعدين لمساعدة الآخرين على حمل أعبائهم أكثر بكثير من استعدادنا السماح للآخرين لمساعدتنا في حمل أعبائنا. ويدين بولس هذا الموقف المتسم بالاكتفاء الذاتي (غلاطية ٦: ٣) بوصفه كبرياء بشرية، وذلك عندما نرفض الاعتراف بأن لدينا احتياجات ونعاني من ضعفات. وهذه الكبرياء لا تسلب منا الراحة التي يرغب الآخرين في منحنا إياها فحسب، ولكنها تحرم الآخرين أيضاً من إكمال الخدمة التي دعاهم ﷲ للقيام بها.


وأخيراً، يدعونا ﷲ إلى حمل أعباء الآخرين لأنه يمكن لتعزية ﷲ أن تتجلى وتظهر من خلال أعمالنا وتصرفاتنا مع الآخرين. وهذا المفهوم مبني على حقيقة أن الكنيسة هي جسد المسيح. ونجد توضيحاً لهذا في كلمات بولس، «لكِنَّ اللهَ الَّذِي يُعَزِّي الْمُتَّضِعِينَ عَزَّانَا بِمَجِيءِ تِيطُسَ» (٢كورنثوس ٧: ٦). لاحظ أن تعزية ﷲ لم تُعط لبولس من خلال صلاته الخاصة وانتظار الرب، لكنها قد جاءته من خلال صداقته لتيطس ومن خلال الأخبار السارة التي جاءه بها.


«إن الصداقة الإنسانية، التي نحمل فيها بعضنا أثقال بعض، هي جزء من مشيئة ﷲ لشعبه» (جون أر. و. ستوتّ، رسالة غلاطية، صفحة ١٥٨).






ناموس المسيح (غلاطية ٦: ٢-٥)


يربط بولس بين حمل الأعباء وبين إتمام ناموس المسيح. ما الذي يعنيه بولس بـ «نَامُوس الْمَسِيحِ»؟ غلاطية ٥: ١٤؛ ٦: ٢؛ يوحنا ١٣: ٣٤؛ متى ٢٢: ٣٤-٤٠.


إن عبارة «ناموس المسيح» (ton nomon tou Christou)، التي استخدمها بولس، لا تَرِد في أي مكان آخر بالكتاب المقدس، على الرغم من أنه يُستخدم تعبيراً مشابهاً في ١كورنثوس ٩: ٢١ (ennomos Christou). ولقد نتج عن تَفرُّد هذه العبارة عدد من التفسيرات. ويقول البعض بشكل خاطئ أن هذا دليل على أن الناموس الذي أعطاه ﷲ في سيناء قد اُسْتُبدل بناموس مختلف، ناموس المسيح. ويزعم آخرون أن الكلمة تعني ببساطة «مبدأً» عاماً (انظر رومية ٧: ٢١)، معناه أننا بحملنا أَثْقَالَ الآخرين نحن نتبع مثال المسيح. وفي حين أن التفسير الأخير به بعض المنطق، إلا أن السياق والمصطلحات المستخدمة، والتي تشبه تلك التي في غلاطية ٥: ١٤، توحي بأن «إتمام ناموس المسيح» هو صورة لإتمام الناموس الأدبي (الوصايا العشر) بالمحبّة. وقد بيّن بولس قبل ذلك في رسالته بأنّ الناموس الأدبي لم ينتهِ أو يَبْطُل بمجيء المسيح. وبدلاً من ذلك، فإن الناموس الأدبي مُتَرْجَمَاً بالمحبّة عملياً له دور هام جدّاً في الحياة المسيحيّة. هذه هي خلاصة ما عَلَّمَه المسيح أثناء خدمته الأرضية وهو ما مارسه أيضاً خلال حياته، بل وحتى في موته. فنحن، بحملنا أَثْقَالَ الآخرين، لا نسير في خطى المسيح فحسب ولكننا نتمم الناموس أيضاً.


وتظهر مسألة أخرى في هذه الآيات وهي التناقض الظاهر بين غلاطية ٦: ٢ وغلاطية ٦: ٥. ومع ذلك، فإن هذه المشكلة تُحَل بسرعة عندما يدرك المرء أن بولس كان يستخدم كلمتين مختلفتين لوصف حالتين مختلفتين. وكما رأينا، فإن الكلمة «baros» المستخدمة في عد ٢ بمعنى «أَثْقَالَ» تشير إلى كتلة ثقيلة يجب على المرء حملها لمسافة طويلة. أما كلمة «phortion» أو «حِمْل» في عد ٥، فهي تشير، مع ذلك، إلى حمولة سفينة، أو إلى حقيبة مهمّات على ظهر جندي، أو حتى إلى الجنين في بطن أمّه.


وفي حين أنه يمكن إزاحة الحِمْل (الثِقْل) الأول المُشار إليه في عد ٢، فإنه لا يمكن عمل ذلك مع الحِمل الثاني المشار إليه في عد ٥، إذ على الأم الحُبلى أن تحمل جنينها. وكما يشير هذا المثال، هناك بعض الأحمال التي يمكن للآخرين مساعدتنا على حملها، في حين أن هناك أحمالاً أخرى لا يستطيع أي إنسان حملها من أجلنا مثل حِمْل الضمير الذي يشعر بالذنب، والآلام والموت. وعلينا في هذه الأمور أن نعتمد على معونة ﷲ وحدها (متى ١١: ٢٨-٣٠).






الزرع والحصاد (غلاطية ٦: ٦-١٠)


الكلمة المترجمة «يُشْمَخُ» (mukterizo) في غلاطية ٦: ٧ تظهر في العهد الجديد بهذه الآيات فقط، رغم أنها كثيراً ما تظهر في الترجمة اليونانية للعهد القديم. وهي تعني حرفياً «أن يرفع المرء منخاره في احتقار». وفي العهد القديم، تشير هذه الكلمة نموذجياً إلى الاستهزاء بأنبياء ﷲ (٢أخبار ٣٦: ١٦؛ إرميا ٢٠: ٧)، واُستعملت مرة لتعبّر عن تصرّف عدائي متمرّد ضد ﷲ (حزقيال ٨: ١٧).


والنقطة التي أراد بولس توضيحها هي أن الناس قد يتجاهلون ﷲ أو حتى قد ينتهكون وصاياه ويزدرون بها ويهزأون منها، لكنهم لا يستطيعون أن يغلبوا ﷲ. فهو القاضي النهائي الأسمى، وسيكون عليهم في النهاية أن يدفعوا ثمن تصرفاتهم وأعمالهم.


اقرأ غلاطية ٦: ٨. ما الذي يعنيه بولس هنا؟ أية أمثلة يمكنك إيجادها في الكتاب المقدس حول شخصيات كانت تزرع للجسد وشخصيات كانت تزرع للروح؟ (انظر على سبيل المثال، أعمال ٥: ١-٥؛ لوقا ٢٢: ٣؛ دانيال ١: ٨؛ متى ٤: ١).


إن استعارة بولس حول الزرع والحصاد ليست فريدة من نوعها. . إنّها حقيقة في الحياة تظهر في كثير من الأمثال والحِكم المأثورة. أما الشيء الهام، مع ذلك، فهو الكيفية التي استخدم بها بولس هذه الاستعارة لإبراز تعليقاته السابقة حول الجسد والروح. ويكتب جيمس د. ج. دن فيقول، «المرادف الحديث لاستعارة بولس هو أنّنا أحرار في الاختيار، لكننا لسنا أحراراً في اختيار عواقب اختيارنا» (غلاطية، صفحة ٣٣٠).


مع أنّ ﷲ لا يخلّصنا دائماً من نتائج خطايانا على الأرض، فلا يجب أن يغلبنا اليأس المترتّب على اختياراتنا الرديّة التي عملناها. وبمقدورنا أن نتهلّل لأنّ ﷲ قد غفر لنا خطايانا وتبنّانا كأولاد أعزّاء. علينا أن نستفيد من الفرص المتاحة لنا الآن لنستثمر في هذه الأشياء التي ستنتج حصاداً سماوياً.


في الوقت ذاته، توضح الآية في غلاطية ٦: ١٠ أن «الأخلاق المسيحية لها اهتمام مزدوج: الاهتمام الأول كوني وشامل، ‹فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ›. ولقد كان نداء بولس المختص بكل العالم مؤسساً على حقيقة أن كل الناس في كل مكان مخلوقون على صورة ﷲ وبالتالي هم ذات قيمة لا تقدّر بثمن في نظر ﷲ. وكلما نسي المسيحيون هذه الحقيقة الأساسية الموجودة في الكتاب المقدس، كلما سقطوا حتماً فريسة للخطايا المشينة مثل التمييز العنصري والتفرقة على أساس الذكورة والأنوثة، والقبلية، والطبقية وآلاف غيرها من الآراء والممارسات المتعصبة التي دمرت المجتمع البشري ابتداء من آدم وحواء إلى يومنا هذا» (تيموثي جورج، غلاطية، صفحة ٤٢٧و ٤٢٨).






لمزيد من الدرس: «إن روح ﷲ يضع الشر تحت سيطرة الضمير. وعندما يرفع [يعظِّم] الإنسان نفسه فوق تأثير الروح القدس فهو سيجني حصاد الظلم والجور. ويتضاءل سلطان الروح في ردع مثل هذا الإنسان عن زرع بذار العصيان. وتفقد التحذيرات قوّتها عليه تدريجيّاً، ويفقد شيئاً فشيئاً مخافة ﷲ. إنَّ مثل هذا الإنسان يزرع للجسد ولسوف يحصد الفساد. فإنّ محصول ما زرعه ينضج. وسيكون له موقف العصيان حيال وصايا ﷲ المقدسة، فيصبح قلبه اللحمي قلباً حجرياً. وستعمل مقاومة الإنسان للحق على تثبيت هذا الإنسان في الإثم. ولأن الناس قد زرعوا بذار الشر، فقد استشرى الخروج عن القانون والجريمة والرعب فيما بعد الطوفان.


«يجب أن يستيقظ الجميع بخصوص تلك القوّة التي تدمّر النفس. فهلاكهم ليس بسبب أي مرسوم قد أصدره ﷲ ضد الإنسانية. فالله لا يجعل الإنسان أعمى روحياً. إنما هو يعطي ما يكفي من نور ومن دليل وبرهان لتمكين الإنسان من التمييز بين الحق والباطل. لكنه لا يُكرِه الإنسان على قبول الحق. إنما يتركه حراً لاختيار إما الخير أو الشر. فإذا قاوم الإنسان ورفض الدليل الكافي الذي يرشده إلى الاتجاه الصحيح واختار الاتجاه الخطأ، فإنه في المرة الثانية سيفعل ذلك بسهولة أكثر. وفي المرة الثالثة، سيظل مثل هذا الإنسان متعطشا إلى أن يسحب نفسه من حضرة ﷲ ويختار الوقوف في جانب الشيطان. وسيستمر هكذا في مسيره إلى أن يتثبَّت في الشر، وسيصدِّق الكذب الذي كان قد عزّزه، ويراه كما لو كان هو الحق. وهكذا تكون مقاومته قد أنتجت حصادها (مخطوطة ١٢٦، ١٩٠١)» [تعليقات روح النبوة، موسوعة الأدفنتست التفسيرية، مجلد ٦، صفحة ١١١٢].




ملخص الدرس: إنّ الدليل على حضور ﷲ وسط شعبه هو الروح المسيحيّة المستعلنة داخل الكنيسة. ويمكن رؤيتها في غفران الإخوة والأخوات لبعضهم البعض وإصلاحهم من شئون واحدهم للآخر وقبول المخطئ بصدر رحب، وفي كيفيّة معونة واحدهم للآخر وقت التجارب. وتستعلن هذه الروح المسيحية أيضاً في أعمال الرأفة والرحمة التي لا تقتصر على الأعضاء بل تتعداهم إلى غير المؤمنين أيضا.


الدرس الرابع عشر


٢٣- ٢٩ أيلول (سبتمبر)


الافتخار بالصليب






السبت بعد الظهر


المراجع الأسبوعية: غلاطية ٦: ١١-١٨؛ رومية ٦: ١-٦؛ ١٢: ١-٨؛ ٢كورنثوس ٤: ١٠؛ ٥: ١٧؛ ١١: ٢٣-٢٩.


آية الحفظ: « وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غلاطية ٦: ١٤).


لقد كانت دراسة سفر غلاطية مكثفةً وذلك لأن الرسالة نفسها مكثفةٌ. فإدراك بولس لدعوته، ومعرفته للحق الذي بَشّر به (كما قال مراراً عديدةً بأنّ الحق قد جاءه من عند الربّ)، كل هذا جعل بولس يكتب بالحماسة الملهمة التي كانت لأنبياء العهد القديم أمثال إشعياء وإرمياء وهوشع. ومثلما توسل هؤلاء إلى شعب ﷲ في زمانهم للتخلي عن أخطائهم، فعل بولس الشيء ذاته مع أولئك الذين كانوا يعيشون في عصره.


وبغض النظر عن مدى ما كانت عليه الظروف المباشرة من اختلاف، فإنه يمكن لكلمات إرميا الختامية أن تنطبق بسهولة على مؤمني غلاطية مثلما انطبقت على مَن كانوا يعيشون في زمن إرميا: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: لاَ يَفْتَخِرَنَّ الْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ الْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ الْغَنِيُّ بِغِنَاهُ. بَلْ بِهذَا لِيَفْتَخِرَنَّ الْمُفْتَخِرُ: بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلاً فِي الأَرْضِ، لأَنِّي بِهذِهِ أُسَرُّ، يَقُولُ الرَّبُّ» (إرميا ٩: ٢٣: ٢٤).


ليس من مكان آخر غير أقدام صليب المسيح فيه تظهر بوضوح شديد انعدام جدوى «أمجاد» حكمتنا البشرية وثرواتنا وجبروتنا. نعم، إنّه صليب المسيح الذي هو بؤرة تركيز رسالة بولس إلى قطيعه المخطئ في غلاطية.


*نرجو التعمق في موضوع هذا الدرس استعداداً لمناقشته يوم السبت القادم الموافق ٣٠ أيلول (سبتمبر).




بِيَد بولس نفسه


قارن ملاحظات بولس الختامية في غلاطية ٦: ١١-١٨ بملاحظاته الختامية في رسائله الأخرى. بأي كيفية تتشابه ملاحظاته الختامية في سفر غلاطية مع باقي الملاحظات في الرسائل الأخرى، وفيم تختلف؟ (انظر الملاحظات الختامية في رومية ١، ٢كورنثوس، أفسس، فيلبي، كولوسي، و١و ٢تسالونيكي).


لا يوجد نمط معين في ملاحظات بولس الختامية، وإنّما هي عبارة عن عدّة عناصر مألوفة عاديّة يظهر من خلالها: (١) تحية إلى أفراد معينين، (٢) نصيحة ختامية، (٣) توقيع شخصي، و (٤) بركة أو تطويبة ختامية. وعند مقارنة هذه السمات النموذجية بملاحظات بولس الختامية في غلاطية، يظهر هناك اختلافان هامان.


أولاً، على خلاف العديد من رسائل بولس، لا تحتوي رسالة غلاطية على أي تحيات شخصية. لماذا؟ من المحتمل أن ذلك إشارة أخرى إلى العلاقة المتوترة بين بولس ومؤمني غلاطية. هذا بالإضافة إلى غياب عبارات الشكر التقليدية في بداية الرسالة. لقد كان بولس مهذباً ولكن رسمياً جادّاً.


ثانياً، علينا أن نتذكر أن عادة بولس كانت إملاء رسائله إلى كاتب (رومية ١٦: ٢٢). ثم بعد الانتهاء، كان بولس يأخذ القلم بنفسه ويكتب بضع كلمات بخط يده لينهي الرسالة (١كورنثوس ١٦: ٢١). أما في رسالة غلاطية، مع ذلك، نجد أن بولس يَحِيد عن عادته هذه. فهو بعد أن أخذ القلم من الكاتب كان لا يزال قلقاً بشأن الظروف في غلاطية لدرجة أنه يختم الرسالة بكتابة المزيد. فهو ببساطة لم يتمكن من ترك القلم دون مناشدة أهل غلاطية مرة أخرى بالرجوع عن طرقهم الحمقاء.


في غلاطية ٦: ١١ يؤكد بولس على أنه كتب الرسالة بحروف كبيرة. نحن حقاً لا نعرف لماذا؟ فلقد تصور البعض أن بولس لم يكن يشير إلى حجم الحروف ولكن إلى شكلها المشوَّه. وقد اقترحوا أنه ربّما كانت يدا بولس عاجزتين من جرّاء الاضطهاد أو أنّهما كانتا معوّقتين من صناعة الخيام الشاقّة ولذلك لم يستطع أن يخطّ الحروف بدقّة. واعتقد آخرون بأنّ تعليقاته كانت دليلاً إضافياً على ضعف نظره.


ورغم أن وجهتي النظر كلتيهما ممكنتان، يبدو من المحتمل جداً أن يكون بولس قد كتب بحروف كبيرة لكي يؤكد ويشدد على نقطته. وهذا شيء شبيه بما نفعله نحن لإبراز أهمية كلمة أو عبارة وذلك بوضع خط تحت هذه الكلمة أو العبارة أو كتابة الكلمة بحروف مائلة أو كتابتها بحروف كبيرة محبّرة.


مهما كان السبب، فمن المؤكد أن بولس أراد لقرائه أن ينتبهوا إلى تحذيراته وإنذاراته.




الافتخار في الجسد


اقرأ غلاطية ٦: ١٢و ١٣. ما الذي يقوله بولس في هذه الآيات؟


على الرغم من أن بولس قد لمّح سابقاً عن نوايا ودوافع معارضيه (انظر غلاطية ١: ٧؛ ٤: ١٧)، إلا أن تعليقاته في غلاطية ٦: ١٢و ١٣ هي أول تعليقات واضحة يثيرها حول معارضيه. فهو يصفهم بمَن يريدون أن «يَعْمَلُوا مَنْظَرًا حَسَنًا فِي الْجَسَدِ». وعبارة «مَنْظَرًا حَسَنًا» في اللغة اليونانية تعني حرفياً أن تلبس «وجهاً حسناً». في الحقيقة، إن الكلمة التي تعني «وجه» هي في اللغة اليونانية نفس الكلمة التي تعني قناع الممثل، بل وتستخدم هذه الكلمة مجازياً حتى لتشير إلى الدور الذي يلعبه الممثل. وبكلمات أخرى، فإن بولس يقول أن أولئك الناس كانوا يسعون إلى نيل موافقة وتأييد الجمهور. وفي ثقافة مؤسسة على الشرف والعار، يكون الالتزام ضرورياً، وقد بدا أن أولئك المعلمين الكذبة كانوا يسعون إلى تحسين مقامهم وإكبار شأنهم أمام رفقائهم من اليهود في غلاطية وكذلك أمام المسيحيين الآخرين من اليهود في أورشليم.


ويشير بولس إلى نقطة هامة حول دوافع هؤلاء المعلمين الكذبة — وهي رغبتهم في تجنب ملاقاة الاضطهاد. وعلى الرغم من أن الاضطهاد يمكن أن يُفهم حتماً من خلال أشكاله المثيرة بما في ذلك الإساءة الجسدية، إلا أن الاضطهاد يمكنه أن يكون أكثر تدميراً حتى في أشكاله الأكثر «اعتدالاً» مثل المضايقة والمعاكسة والتحرش والاستبعاد والإقصاء. وقد كان بولس، قبل اهتدائه ومتعصبون آخرون في مملكة يهوذا، قد مارسوا النوع الأول من الاضطهاد (غلاطية ١: ١٣)، لكن النوع الأخير كان له تأثيره أيضاً على المسيحيين.


على سبيل المثال، كان قادة الدين اليهود لا يزالون يتمتعون بنفوذ سياسي هام في مناطق عدة. وكانوا يحظون بالتأييد الرسمي لروما. لذلك، كان الكثيرون من المؤمنين اليهود حريصين على أن تكونوا علاقتهم جيدة مع أولئك القادة الدينيين اليهود. ومن خلال قيامهم بختان المؤمنين بالمسيح من الأمم وتعليمهم حفظ التوراة، أستطاع مثيرو الاضطرابات في غلاطية أن يجدوا أرضية مشتركة لهم مع اليهود المحليين. ولم يكن ذلك من شأنه أن يحافظ على اتصالهم الودّي مع المجالس اليهودية فحسب، بل كان يمكنه أيضاً تعزيز الروابط التي لهم مع المؤمنين اليهود في أورشليم، وهم الذين كان لديهم شكوكاً متزايدة بشأن العمل الذي يتم مع الأمم (أعمال ٢١: ٢٠و ٢١). وما من شك، أيضاً، في أن تصرفاتهم هذه كانت، إلى حد ما، ستجعل شهادتهم لليهود أكثر فعالية.


ومهما كان الوضع الذي يدور بذهن بولس، إلا أن ما يعنيه واضح: «جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِالتَّقْوَى فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ» (٢تيموثاوس ٣: ١٢).






الافتخار بالصليب (غلاطية ٦: ١٤)


«وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غلاطية ٦: ١٤).


بعد أن عرض بولس الدوافع التي حفزت البعض على الإصرار على الختان، قام بتقديم رسالته الخاصة ببشارة الإنجيل إلى أهل غلاطية للمرة الأخيرة، وإن كان بشكل مختصر في هذه المرة. والبشارة، بالنسبة لبولس، تستند إلى عقيدتين أساسيتين: (١) مركزية الصليب (عد ١٤) و (٢) عقيدة التبرير (عد ١٥). وتركيز درس اليوم سيكون على العقيدة الأولى، ألا وهي مركزية الصليب.


ويصعب علينا نحن الذين نعيش في القرن الحادي والعشرين أن نفهم الصدمة التي حملتها تعليقات بولس أصلاً حول الصليب (غلاطية ٦: ١٤). فصليب المسيح اليوم هو رمز رائج وعزيز يثير مشاعر إيجابية بين معظم الناس. أما في أيام بولس، مع ذلك، فلم يكن الصليب شيئاً يُفتخر به وإنما كان رمزاً للاحتقار والازدراء.


لقد كانت فكرة المسيّا المصلوب مُنفّرة جدّاً لليهود وقد اعتبر الرومانيون فكرة الصَّلْب بغيضة جداً حتى أنه لم يُشَرْ إليها كشكل مناسب من أشكال العقاب بالنسبة لمواطن روماني.


إنّ الازدراء الذي كان العالم القديم ينظر به إلى الصليب يمكن رؤيته في إحدى الرسوم الأوليّة المدوّنة عن الصلب. فهناك لوحة فنية قديمة يعود تاريخها إلى القرن الثاني الميلادي تصوّر صلب إنسان له رأس حمار. وتحت الصليب توجد صورة رجل رافعاً يديه، متعبّداً ومكتوب بجواره، «الإسكندر يعبد إلهه.» النقطة واضحة: إن صليب المسيح كان يعتبر مثاراً للمسخرة والسخف. وفي هذا السياق يعلن بولس جهاراً بأنه لا يفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح.


أي اختلاف أحدثه صليب المسيح في علاقة بولس بالعالم؟ غلاطية ٦: ١٤؛ رومية ٦: ١-٦و ١٢: ١-٨؛ فيلبي ٣: ٨.


إن صليب المسيح يغيّر كل شيء بالنسبة للمؤمن. وهو يقدم لنا التحدي ليس فقط لإعادة تقييم نظرتنا لأنفسنا، ولكن للطريقة التي نتواصل بها مع العالم أيضاً. إن العالم — هذا العصر الشرير الحالي وكل ما يستلزمه وما يتبعه (١يوحنا ٢: ١٦) — يقف في معارضة لله. ولأننا مُتنا مع المسيح، فإن العالم لم تعد له القدرة لاستعبادنا مثلما كان يفعل قبلاً، كما أن الحياة القديمة التي كنا نعيشها من قبل قد انتهت. وبإتباعنا للتشبيه الذي أعطاه بولس، يبدو أن الانفصام الذي حدث بين المؤمن وبين العالم لا بد وأن يكون كما لو أن الاثنين كليهما قد ماتا واحدهما للآخر.






خليقة جديدة


بعد تأكيده على مركزية صليب المسيح بالنسبة للحياة المسيحية، يركز بولس الآن على العقيدة الأساسية الثانية لرسالة الإنجيل: التبرير بالإيمان.


وكما رأينا في كل هذا الربع، فإن بولس قد علّم بأن الختان مناقض للإنجيل.


ومع ذلك فهو ليس ضد ممارسة عملية الختان في حد ذاتها. صحيح أن بولس قد أثار عدة تصريحات قوية ضد الختان (انظر غلاطية ٥: ٢-٤)، لكنه لا يريد أن يستنتج الغلاطيون أن عدم الختان هو أكثر مسرّة إلى ﷲ من الختان. هذه لم تكن النقطة، لأن بإمكان المرء أن يكون متزمتاً بشأن ما يجب على المرء عمله بنفس قدر تزمته بشأن ما لا يجب على المرء عمله. ومن المنظور الروحي، لا علاقة لمسألة الختان بالدين. فالديانة الحقيقية هي الديانة التي تهتم وتُعْنَى بنقاوة وطهارة القلب أكثر من اهتمامها بالسلوك الخارجي للإنسان. وكما قال المسيح نفسه، يمكن للإنسان أن يظهر حسناً من الخارج لكنه قد يكون فاسداً (نتناً) من الداخل (متى ٢٣ :٢٧).


ما الذي يعنيه أن تكون خليقة جديدة؟ غلاطية ٦: ١٥؛ ٢كورنثوس ٥: ١٧. كيف اختبرت أنت نفسك ما يعنيه هذا؟


الكلمة اليونانية المترجمة «خليقة» هي «Ktisis». وهي تشير إلى «مخلوق» فردي (عبرانيين ٤: ١٣) أو إلى النظام «المخلوق» نفسه (رومية ٨: ٢٢). وتلك هي نقطة بولس: فأن يصبح المرء «خليقة جديدة» هو أمر لا يمكن إحداثه بواسطة أي جهد بشري — سواء كان الختان أو أي شيء آخر. ويشير المسيح إلى هذه العملية على أنها «الولادة الجديدة» (يوحنا ٣: ٥-٨). إنها عمل إلهي فيه يقوم ﷲ بأخذ الشخص الميت روحياً وينفخ فيه حياة روحية. وهذه أيضاً استعارة لوصف عمل الخلاص الذي يصفه بولس بشكل نموذجي على أنه التبرير بالإيمان.


يشير بولس إلى هذه الخليقة الجديدة بتفصيل أكثر في ٢كورنثوس ٥: ١٧. وفي هذه الآية يوضح بولس أن كون الإنسان قد أصبح خليقة جديدة يعني أكثر من مجرد تغيير في وضعنا وحالتنا في سجلّات السماء، إنّها تُحْدِث تغييراً جذرياً في حياتنا اليوميّة. وكما يشير تيموثي جورج، فإن الخليقة الجديدة «تتضمن كل عملية التجديد: عمل التجديد الذي يقوم به الروح القدس ويقودنا إلى التوبة والإيمان، العملية اليوميّة للموت [عن الذات] والحياة [للرب]، نموٌ مطّردٌ في القداسة التي تنتهي بنا إلى أن نصير مشابهين صورة يسوع المسيح» (غلاطية، صفحة ٤٣٨).


مع ذلك، فكوننا أصبحنا خليقة جديدة هو ليس ما يبررنا. بل إن هذا التغيير الجذري الذي يطرأ علينا، بدلاً من ذلك، هو الإعلان الواضح لما يعنيه أن نكون مبررين.




ملاحظات أخيرة (غلاطية ٦ ١٦-١٨)


يطلب بولس بَرَكة ﷲ على أولئك الذين، «يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هذَا الْقَانُونِ» (غلاطية ٦: ١٦). في سياق ما يتحدث عنه بولس، أي قانون في اعتقادك هو محور الحديث؟


الكلمة المترجمة «قانون» تشير بشكل حرفي إلى عصا أو قضيب يُستخدم من قبل البنّائين أو النجّارين للقياس. ومع الوقت أخذت الكلمة معنى رمزي لتشير إلى القواعد والمعايير التي يُقَيِّم الشخص شيئاً بواسطتها ويُقَدِّره. على سبيل المثال، عندما يتحدث الناس عن شريعة العهد الجديد، فإنهم بذلك يشيرون إلى الـ ٢٧ سفراً التي يتكون منها العهد الجديد، والتي يُنظر إليها على أنها ذات سلطة رسمية لتحديد كل مِن معتقدات الكنيسة وممارساتها. لذا، فإن أي تعليم لا «يتناسب ويتماشى» مع ما هو موجود في هذه الأسفار لا يُقْبَل.


ما هي «سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ» التي يحملها بولس في جسده؟ وما الذي كان يعنيه عندما كتب يقول إنه لا يجب على أي شخص أن يجلب عليه «أَتْعَابًا «بسببها»؟ أربما تساعدك غلاطية ٦: ١٤ على إجابة هذا السؤال؟ غلاطية ٦: ١٧؛ ٢كورنثوس ٤: ١٠؛ ١١: ٢٣-٢٩.


تأتي كلمة «سِمة» من الكلمة اليونانية «stigmata»، التي تأتي منها أيضاً الكلمة الإنجليزية «stigma». وربما يشير بولس هنا إلى التقليد المعروف الخاص بعلمية وَسم العبيد بسِمة سيدهم كشكل من أشكال تعريفه والتحقّق مِن هُويته كعبد مملوك لهذا السيد، أو ربما كانت تُشير إلى طريقة العبادة في بعض الديانات الغامضة حيث كان يقوم الشخص المؤمن بهذه الديانة بوَسّم نفسه كعلامة للتكريس. وفي أي حال من الأحوال، فإنَّ «بولس بحديثه عن ’سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ‘ يشير بلا شك إلى النُدَبَ (أثر الجروح) التي تُركت في جسده بسبب الاضطهاد والمشقة (انظر ٢كورنثوس ٤: ١٠؛ ١١: ٢٤-٢٧).


ويُصرُّ معارضوه الآن على إجبار المهتدين من الأمم لأن يقبلوا سِمة الختان كرمز لرضوخهم للديانة اليهودية. لكن بولس كانت لديه سِمات وعلامات تشير إلى هُوية مَن أصبح بولس له عبداً. وبالنسبة لبولس، فإنه لن يخضع لأحد غير المسيح. ... ولقد كانت السِّمات التي استلمها بولس من خصومه أثناء خدمته لسيده تتحدث ببلاغة فائقة عن تكريسه ليسوع» (موسوعة الأدفنتست التفسيرية، مجلد ٦، صفحة ٩٨٩).




لمزيد من الدرس: «إن روح ﷲ يضع الشر تحت سيطرة الضمير. وعندما يرفع [يعظِّم] الإنسان نفسه فوق تأثير الروح القدس فهو سيجني حصاد الظلم والجور. ويتضاءل سلطان الروح في ردع مثل هذا الإنسان عن زرع بذار العصيان. وتفقد التحذيرات قوّتها عليه تدريجيّاً، ويفقد شيئاً فشيئاً مخافة ﷲ. إنَّ مثل هذا الإنسان يزرع للجسد ولسوف يحصد الفساد. فإنّ محصول ما زرعه ينضج. وسيكون له موقف العصيان حيال وصايا ﷲ المقدسة، فيصبح قلبه اللحمي قلباً حجرياً. وستعمل مقاومة الإنسان للحق على تثبيت هذا الإنسان في الإثم. ولأن الناس قد زرعوا بذار الشر، فقد استشرى الخروج عن القانون والجريمة والرعب فيما بعد الطوفان.


«يجب أن يستيقظ الجميع بخصوص تلك القوّة التي تدمّر النفس. فهلاكهم ليس بسبب أي مرسوم قد أصدره ﷲ ضد الإنسانية. فالله لا يجعل الإنسان أعمى روحياً. إنما هو يعطي ما يكفي من نور ومن دليل وبرهان لتمكين الإنسان من التمييز بين الحق والباطل. لكنه لا يُكرِه الإنسان على قبول الحق. إنما يتركه حراً لاختيار إما الخير أو الشر. فإذا قاوم الإنسان ورفض الدليل الكافي الذي يرشده إلى الاتجاه الصحيح واختار الاتجاه الخطأ، فإنه في المرة الثانية سيفعل ذلك بسهولة أكثر. وفي المرة الثالثة، سيظل مثل هذا الإنسان متعطشا إلى أن يسحب نفسه من حضرة ﷲ ويختار الوقوف في جانب الشيطان. وسيستمر هكذا في مسيره إلى أن يتثبَّت في الشر، وسيصدِّق الكذب الذي كان قد عزّزه، ويراه كما لو كان هو الحق. وهكذا تكون مقاومته قد أنتجت حصادها (مخطوطة ١٢٦، ١٩٠١)» [تعليقات روح النبوة، موسوعة الأدفنتست التفسيرية، مجلد ٦، صفحة ١١١٢].




ملخص الدرس: الديانة الحقيقية لا تتلخّص في السلوك الخارجي وحده بل بحالة القلب. عندما يخضع القلب لله، تعكس حياة ذلك الإنسان أخلاق المسيح شيئاً فشيئاً بينما ينمو الإيمان. يتحتّم أن يرضخ القلب للمسيح. وعندما يحدث هذا فكلّ الأمور تستقيم بعد ذلك تباعاً.



سعر هذا الكتاب ٥٠ سِنْتَاً أمريكياً أو ما يُعادل هذا المبلغ بالعُملة المحلّية.


لمزيد من المعلومات، يُرجى زيارة الموقع الإلكتروني التالي: www.menapa.com


كما يمكنكم مراسلتنا على البريد الإلكتروني التالي: info@menapa.com



دليل دراسة الكتاب المُقَدّس للربع الرابع ٢٠١٧


في الربع المقبل سوف ندرس سفر رومية احتفالاً بالذكرى الخمسمائة للإصلاح البروتستانتي. في عام ١٥١٧، ألصق مارتن لوثر ورقة على باب كنيسة القلعة في وتبرك كتب عليها خمسة وتسعين أطروحة. وبالطبع، فقد تغيّر الكثير منذ ذلك اليوم. إنّما شيء واحد لم يتغيّر وهو كلمة الله والحقّ الذي تتضّمنه، تلك التي أَعطت مارتن لوثر الأساس اللاهوتي الذي تحدّى به روما وقدَّمَ للملايين مفهوماً كتابيّاً عظيماً ألا وهو (الخلاص بالإيمان وحده). وبدون شك، فقد تقدّمت المسيحية تقدّماً عظيماً منذ عهد لوثر متحررّةً من خرافات دامت قروناً، وتعاليم باطلة أودت بالمفاهيم الكتابية بل وتاجرت برسالة الإنجيل. لكن للأسف، فقد تعطّلت النهضة عبر السنين، وقد استُبدل التقدّم في أماكن عدّة بحالة ركود ومراسيم بالية. واليوم في عصر يحاول احتواء الكنائس في تجمّعات عالمية، فقد تشوّهت الكثير من الحقائق الكتابية التي كانت قد ألهبت النهضة الإصلاحية، وقد تغطّت بمظاهر لغوية لكي تخفي الخلافات الجوهريّة التي ظلت عالقة منذ أيام لوثر. إنّ نبوءات دانيال ٧: ٢٣- ٢٥؛ ٨: ٩- ١٢؛ رؤيا ١٣، ١٤، وكذلك الأخبار الرائعة عن الخلاص بالإيمان التي في رسالة رومية، جميعها تبيّن السبب الذي يحدو بالمؤمنين المخلِصين للكتاب المقدّس أن يلتصقوا بالمبادئ التي دافع عنها أسلافنا البروتستانت بحياتهم. ولهذا فإننا نرفض بشدة كل المحاولات الهادفة إلى إرجاع المسيحيين للانضواء تحت لواء روما، وإلى الممارسات الدينية لعصر ما قبل الإصلاح. فإن الكتاب المقدس يقودنا للسير في الاتّجاه المضاد (رؤيا ١٨: ٤). وفي ذلك الاتجاه، نسير معلنين "البِشَارَة الأَبَدِيَّة" (رؤيا ١٤: ٦) للعالم أجمع.




الخلاص بالإيمان وحده: سفر رومية


١. الرسول بولس في رومية٣٠ أيلول (سبتمبر)- ٦ تشرين الأول (أكتوبر)


٢. الصراع٧-١٣ تشرين الأول (أكتوبر)


٣. الحالة الإنسانية١٤- ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر)


٤. التبرير بالإيمان٢١- ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر)


٥. إيمان إبراهيم٢٨ تشرين الأول (أكتوبر)- ٣ تشرين الثاني (نوفمبر)


٦. آدم والمسيح٤- ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر)


٧. الغلبة على الخطية١١- ١٧ تشرين الثاني (نوفمبر)


٨. مَن هو إنسان رومية ٧؟١٨ - ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر)


٩. لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر)- ١ كانون الأول (ديسمبر)


١٠. أبناء الموعد٢- ٨ كانون الأول (ديسمبر)


١١. المختارون٩- ١٥كانون الأول (ديسمبر)


١٢. الغلبة على الشر بالخير١٦- ٢٢ كانون الأول (ديسمبر)


١٣. الحياة المسيحيّة٢٣- ٢٩ كانون الأول (ديسمبر)